Beirut weather 30.41 ° C
تاريخ النشر June 25, 2025
A A A
شرق أوسط جديد
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”:

الأكيد أن غرب آسيا أو ما يُعرف بالشرق الأوسط قد تغيّر بعد الحرب الأميركية الإسرائيلية على إيران، والنهاية التي آلت إليها هذه الحرب، بعدما حدث ما كان موضع تهديد وقلق وسعي لتجنّب حدوثه واستبعاده طوال عقدين على الأقل، وهو الحرب، وقد انتهت الحرب التي يحتفل بنيامين نتنياهو بالانتصار فيها، كما يحتفل دونالد ترامب بعظمة ما أنجزه خلالها، ما يستدعي التدقيق في ماهية الشرق الأوسط الجديد الذي ولد من رحم هذه الحرب، خصوصاً أن نتنياهو جعل تغيير الشرق الأوسط شعاراً لحروبه الممتدّة على مساحة المنطقة التي توّجتها حربه ضد إيران، فما هي الحقائق التي قالتها الحرب بعقل بارد دون حماس وانفعال.

الحقيقة الأولى هي أن “إسرائيل” التي تباهت دائماً بقدرتها على خوض الحرب الحاسمة ضد إيران بمفردها، مكتفية بعدم ممانعة أميركية لفعل ذلك، ظهرت عاجزة عن خوض الحرب إلا كفريق مساعد تحت القيادة الأميركيّة، حيث العمل الهجومي مستحيل دون طائرات التزوّد بالوقود الأميركية، ومعلومات الأقمار الصناعية الأميركية، ودون حشد القدرات الاستخبارية للغرب بقيادة أميركية أمّنت الزج بتنظيم مجاهدي خلق وغيره من التنظيمات العاملة تحت راية واشنطن وباريس ولندن وبرلين، والتنسيق بين الطائرات والأقمار الصناعيّة ومعطيات الميدان يتم في قاعدة العديد في قطر بقيادة الجنرال مايكل اريك كوريلا قائد القيادة المركزيّة في الجيوش الأميركية، أما المهمات الدفاعية وأهمها التصدّي للصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية التي تستهدف كيان الاحتلال فأكثر من نصفها تعتمد على المدمّرات والطائرات الأميركية المرابطة في سواحل البحر المتوسط.

الحقيقة الثانية أن أميركا التي هندست الحرب وخططت لها وجهّزت “إسرائيل” لخوضها وقدّمت لها كل ما يلزم لتحقيق ذلك، عندما وجدت في اليوم الثالث أن “إسرائيل” عاجزة عن تحمّل التبعات ومواصلة المهمة، احتاجت أياماً للتدخل ولم تستطع تجاوز التدخل المباشر بعملية محدودة، وعندما وضعها الرد الإيراني الرمزي باستهداف قاعدة العديد، بين خياري الخروج من الحرب أو خوضها بسقف أعلى، اختارت الخروج، ووضعت “إسرائيل” بين خيارَي الخروج معها أو المواصلة وحدها، كما فعلت بعد شهر ونصف من الحرب مع اليمن، وتوضح المناقشات التي رافقت القرارات الأميركية سواء بالتدخل الموضعي أو التملص من دخول الحرب والرد على الرد، يكتشف حجم الممانعة الشعبية والسياسية في أميركا للتورط في الحرب، وخصوصاً حرب إسرائيلية، بعكس الصورة السائدة تقليدياً، إلى حدّ أن الإجماع على العملية المحدودة كان مشروطاً بالتعهد بعدم التورط في حرب تريد “إسرائيل” توريط أميركا بخوضها عنها وليس معها فقط.

الحقيقة الثالثة هي أن إيران التي لم تبدأ الحرب مع “إسرائيل” ولا بدأتها مع أميركا، بقيت خلال أيام الحرب تكرّر أنها مستعدة لفتح باب الدبلوماسية والتفاوض مجدداً إذا توقف العدوان، ولم ترفع أي شعار أو تضع أي شروط لقبول وقف الحرب. وها هي الحرب التي طالما تمّ تهديد إيران بأنها خيار أميركي على الطاولة، او أنها خيار إسرائيلي لا تستطيع أميركا منع حدوثه ما لم ترضخ إيران للشروط الأميركية، قد تمّ خوضها من أميركا و”إسرائيل”، ولم تعد ورقة ضغط تفاوضيّة، والحرب لم تنجح بإنهاء البرنامج النوويّ في فقراته المقلقة للأميركيين والإسرائيليين وكل الغرب، وهي ليست المفاعلات التي لحق بها الضرر، بل أجهزة التخصيب والعلماء والكميّات المخصّبة على مستوى مرتفع من اليورانيوم وهي بقيت سالمة أو لحقت بها أضرار طفيفة، وصار القلق من انفراد إيراني بالتصرف بها أعلى، وصار الاتفاق مع إيران هو الطريق الوحيد لضمان عدم حدوث ما يسبب المزيد من القلق، خصوصاً إذا علقت إيران تعاونها مع مفتشي الوكالة، أما البرنامج الصاروخي الإيراني فقد نال سمعة عالية بحسن أدائه وظهور حجم مقدراته في هذه الحرب، وصارت الحرب مناسبة تسويقية لانتزاع الإعجاب، بينما مادياً فإن أضراره قابلة للترميم والتعويض وإعادة التكوين للمخزون، والأهم أن جوهر الرهان الغربي الأميركي والإسرائيلي على وجود فرصة لفتح ثغرة أمام مشروع تغيير النظام أو إشاعة الفوضى في إيران أو شق الطريق أمام الحرب الأهليّة قد اختُبرت بأفضل شروط متاحة، وانتهت بفشل ذريع. وهكذا بفعل كل هذه الوقائع صار عدم الاتفاق مع إيران مصيبة والاتفاق معها كارثة.

الحقيقة الرابعة هي أن الحرب التي انتهت أمس، غير قابلة للتكرار، فما توفر من فرص لتحقيق أهدافها في عقول مخططيها قبل خوضها، يصعب توافره مجدداً، وقد كشف الواقع محدودية الفرص والمبالغة في التقديرات لقوة الحرب وضعف إيران، ومشاركة أميركا صارت أصعب وانفراد “إسرائيل” صار أقرب للاستحالة، وثبتت إيران قوة إقليمية عظمى لا مجال لتجاهل الحاجة للتفاهم معها، وهي ما تمثل من الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، كحلقة وصل بين تركيا وباكستان، تكمل معهما الحزام الشماليّ الذي يوصل ويفصل روسيا والصين عن الشرق العربي والإسلامي، وتثبيت موقعها يُعيد تثبيت تأثيرها على تحوّلات تركيا وباكستان وتواصلها مع روسيا والصين، ويشكل نواة مشهد دوليّ يصعب تجاوزه، ولا يبدو أنه يتّسع لدور قيادي لـ”إسرائيل” رغم كل انتفاخ نتنياهو إعلامياً.

نهاية الحرب على إيران تنهي فترة السماح أمام نتنياهو في حربي لبنان وغزة، بعدما انتهى الرهان على سقوط إيران وتداعيات الدومينو على جبهتي لبنان وغزة، وصار السعي لإنهاء حرب غزة وتطبيق اتفاق لبنان لوقف النار، حاجة ماسّة لتحصين الاستقرار الهش في المنطقة، طالما أن نتنياهو صار بطل الحروب التي يعرف كيف يبدأها ويعجز عن إنهائها.