Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر July 24, 2016
A A A
سيرة «الداعشيين» الفرنسيين والتطرّف على الإنترنت
الكاتب: دافيد تومسون - الحياة

شبّ شطر راجح من الفرنسيين الذكور الذين أرسوا قطيعة مع الجمهورية الفرنسية، في الأحياء الشعبية الفرنسية. وعلى خلاف الشائع، ليست غالبيتهم من المهمّشين الذين يعيشون خارج متن الاجتماع الفرنسي. فعدد كبير منهم كان مندمجاً في الحياة العملية وأسّس أسرة، وحصل على راتب مجزٍ أعلى من المتوسط الوطني قبل أن يترك كل شيء لدواع دينية أو سياسية. ويتحدر شباب وشابات من الطبقات الوسطى أو من الأرياف على غرار شابة أدعوها كليمانس، وهي كانت كاثوليكية تواظب على الشعائر الدينية الى أن اعتنقت الإسلام إثر وقوعها على القرآن في مكتبة «فناك». ولا شك في أن غالبية الشباب الملتحق بـ «الجهاديين» تنتمي الى جيل واحد أو الى فئة عمرية بين السادسة عشرة والثلاثين عاماً. لكن «بطاقات» تعريفهم الاجتماعية بالغة التنوّع، شأن تنوّع هويات الملتحقين بالمجموعات الإسلامية في البوسنة أو أفغانستان. إنما على خلاف الأمس، ظاهرة الالتحاق بالجهاديين، اليوم، واسعة وكبيرة.

والجامع بين «الفرنسيين الجهاديين» وصفهم فصول حيواتهم السابقة بالجاهلية. فمنهم من كان يعمل في مجال الموسيقى، وكثر في موسيقى الراب تحديداً، وبعض آخر في الجيش أو مجرد موظفين عاديين، أو يعيشون حياة عائلية مستقرة وتقليدية. لكنهم يقولون إن حيواتهم كانت خارج التديّن قبل اعتناق الإسلام الديني وليس الثقافي فحسب. وفي المقابلات التي أجريتها مع مثل هؤلاء، يروي المتحدرون من بيئة مسلمة ثقافياً أنهم تلقوا في صغرهم تربية دينية معتدلة ولينة تتخفف من الفرائض. لكن المتحوّلين الى الإسلام يتحدرون غالباً من أسر كاثوليكية أو بروتستانتية تقبل على الشعائر الى حدّ ما. وأحد الذين قابلتهم يروي أنه اعتنق البوذية ثم الإسلام، وقابلتُ جهاديين يتحدرون من أسر يهودية أو كانوا ناشطين في اليمين المتطرف. ويقع المرء على جهاديين من كل المنابت الاجتماعية، لكن لا يجوز اعتبار أي شخص منهم عينة ممثلة للجهاديين كلهم. ويبدو أن التحول الى الإسلام «الجهادي» جواب قلق روحاني وجواب عن أسئلة مضمرة. وهذا المزج بين اكتشاف الديني أو العودة إليه هو المشترك بين الجهاديين كلهم من كليمانس الى أبو مصعب الزرقاوي. وسواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو بوذيين في فصول حياتهم السابقة، يجمع بينهم أنهم يشعرون بأنهم «متحولون الى» ومنتقلون من مرحلة سابقة (ما قبل) الى مرحلة لاحقة (ما بعد). وهذا الانتقال من مرحلة الى أخرى بنيوي: أخبرني جانح سابق يداه ملطختان بالدماء قبل «تحوّله»، أن ماضيه الإجرامي يثبت الحقيقة التي يعرفها اليوم. فهذا الماضي يقربه من «رفاق»… انتقلوا من العنف الزمني الى العنف الديني. وانضم هذا الشخص الى الشرطة الإسلامية، وأسرّ إلي ذات يوم أنه يشعر بالمتعة حين قتل الناس. فـ «الجهادية» أضفت مشروعية على عنفه، وسوغت نزوله على نزعاته القاتلة.

ولم تعد إحصاءات عن مستوى «الجهاديين» الفرنسيين التعليمي. لكن قلة ممن قابلتهم تابعت تحصيلاً علمياً جامعياً في الحقوق أو العلوم أو الأدب، وشطر راجح منهم توقّف عن التحصيل العلمي بعد المرحلة الثانوية أو البكالوريا المهنية. والشعور بالإحباط يجمعهم، والجهادية هي جسر انتقال «أنوات» غاضبة الى مرتبة بطل. وثمة جانب فردي في السعي الى البطولة. ومنهم من ينتمي الى أقلية ويرى أنه بلغ أقصى المتاح له في فرنسا كابن مهاجرين، على رغم أنه كان يعيش عيشاً كريماً، لكنه كان يشعر بأنه من غير كرامة. وبين المتحوّلين الى الإسلام فرنسيون من خارج البر الفرنسي وفرنسيون من أبناء هجرات جنوب صحراوية وبرتغالية وكورية وفيتنامية. والإحباط قد يكون دينياً. فثمة من اعتنق في مرحلة أولى الإسلام السلفي الهادئ، وشعر بأن العلمانية الفرنسية تحول دون «ممارسته» دينه.

ويساهم الفراغ «الأيديولوجي» المعاصر، أو غياب البُعد «التجاوزي» و «الماورائي» في الإقبال على البروباغندا الجهادية. ويتعذر على عدد من الشباب العيش في عالم زمني فحسب. وأحدهم روى لي أن الملل حمله على نشر فيديوات جهادية على صفحته الفايسبوكية، فانهالت عليه الـ «لايكس» (علامة الإعجاب)، فشعر بأنه مهم. ثم غادر الى سورية، ونشر من هناك صوره وهو يحمل كلاشنيكوف، فتلقى عشرات دعوات الزواج يومياً في وقت لم تكن في متناوله في فرنسا إقامة علاقات حميمة.

وحين بدأت كتابي الاستقصائي، كنتُ في تونس يوم كان حزب النهضة في السلطة. ولم يكن رهاب الإسلام وراء التحاق نحو 6 آلاف تونسي بـ «داعش» في سورية والعراق وليبيا. وفي عام واحد، وقع ما لم يكن في الحسبان: قصد التونسيون الذين كانوا يسعون الى بلوغ أوروبا عبر لامبيدوزا في 2011، سورية وحطوا الرحال فيها في 2012. وكأنهم نقلوا آمالهم من مثل خيالي لليسر والرفاه الى «جنة» أخرى. وهم شباب متنوع الألوان من أطباء، ومغنين ورياضيين وليس فحسب عاطلين من العمل من سيدي بوزيد. وأفلح تنظيما «القاعدة» و «داعش» في ترويج شكل جديد من الجامع العام. والصورة المتداولة عن الجهاديات مفادها أنهن خاضعات ومطيعات لأزواجهن من غير مبادرة. لكنني لاحظت خلاف ذلك. ففي بعض الأزواج، النساء هن أول من تطرف وحملن الزوج على اللحاق بهن. وبعضهن يؤيد الهجمات الانتحارية أكثر من أزواجهن. ويقول عدد منهن أن النقاب هو «تحرر»، فهن يرفضن نموذج المجتمع الفرنسي ونموذج المرأة المعاصرة.

وشطر راجح من «الجهاديين» يرمي الى قتال الديموقراطية والنموذج الفرنسي الذي يصفونه بـ «المعادي للإسلام». ويشي كلامهم بأنهم على يقين من المشاركة في لحظة تاريخية تحقّق يوتوبيا إسلامية، وأن العنف هو السبيل الى بناء «هذه الدولة» المثالية التي تحتكم الى تفسير حرفي للدين. فالحرب هي فرض ديني ووسيلة سياسية. وحين يقتلون يحسبون أنهم يقدمون على ما هو خيّر. وأفعالهم ترمي الى غاية. فهم «منطقيون» وليسوا مجانين ولم يذهب عقلهم، على رغم أن في صفوفهم بعض «الحالات النفسية» المرضية.

شباك «النت»
وكثر ينزلقون الى مثل هذه المعتقدات إثر تبدّد ثقتهم في وسائل الإعلام التقليدية والمؤسسات. وقبل اعتناق التطرف، يبدأ أمثال هؤلاء مسيرتهم ببحث فردي عن معنى الحياة وعن الحقيقة. ولذا، يلجأون الى شبكة الإنترنت. ففي هذه الشبكة تنتشر بروباغندا الجهاديين. ويقع الشباب على الأحاديث الدينية على الشبكة، وليس في الجوامع حيث يديرون لأئمتها آذاناً صماء. فهم يرون أن التفسير التاريخي للنصوص هو بدعة لا يعتد بها. وهذا المفهوم السياسي – الديني «عقلاني» ومتماسك. فالجهاديون يحاربون الديموقراطية. ولا يعود الى الشعب سن القوانين. والى الشباب الباحث عن معنى فينزلق الى العنف الأيديولوجي، ثمة من يذهب الى سورية والعراق ليلتحق بصديق أو أخ، ثم يتعرف إلى الإسلاموية. وعامل الشلل هو عامل بارز في الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية، على غرار ما حصل في مدينة لونيل حيث انضمت مجموعة من الأصدقاء، الواحد تلو الآخر، الى «داعش». وتوقفت هذه الظاهرة حين «انتهاء» سبحة الأصدقاء، وسفرهم جميعاً الى الأراضي الداعشية.

وقبل عصر مواقع التواصل الاجتماعي، كانت البروباغندا الجهادية حكراً على دائرة سرية وضيّقة من الأشخاص، وكانت تبث في منتديات شبه مغلقة. وهذا شأن منتدى «أنصار الحق» الذي أدى دوراً بارزاً في ترجمة النصوص الجهادية الأيديولوجية التي كانت تخلو منها المكتبات الفرنسية المتطرفة. وصار المنتدى هذا مكتبة عامة جهادية مشرعة على من يشاء. وإثر إغلاقها، تتداول اليوم وثائقها بصيغة «بي دي أف» في فرنسا وسورية. وذيوع الجهادية على الإنترنت بدأ في 2012: حين بدأ فرنسيون ينشرون صورهم وهم يحملون السلاح على فايسبوك. وظهرت صفحة «وايك آب أمة» في 2010، لكنها لم تلق إقبالاً قبل أن يُذاع صيت صور «السلفي» الملتقطة في سورية. وساهمت الشبكات الاجتماعية في انتقال عدوى البروباغندا وذيوعها كما لو أنها فيروسات تبلغ بسرعة كبيرة أكبر عدد من الأشخاص. وصار يسيراً على من يرغب في الجهاد أن يذهب الى سورية وأن يحصل على معلومات من مقاتلي «داعش» في أرض «الخلافة» وهو في منزله الأوروبي. وصارت مواقع التواصل الاجتماعي في مثابة دليل المسافرين من الجهاديين المبتدئين. ومع تشديد «فايسبوك» القيود على المحتوى الجهادي، انتخب الجهاديون التواصل على «واتسآب» و «تيليغرام» وسيلة بروباغندا وتواصل.

ولا يحل الإنترنت محل التبشير البشري بالعقيدة الداعشية، بل يوسع نطاق التبشير. فعلى سبيل المثل، كان عمر أومسن لاعباً بارزاً في الدائرة الجهادية الفرنسية ونشر الدعوة المتطرفة في أحياء نيس الشعبية قبل أن يغادر الى سورية. ويعود الى نشاطه الدعوي تحوّل مدينة نيس الى أكبر منبت للجهاديين الفرنسيين المتوجهين الى سورية.

الجيش الفرنسي يحمي برج إيفل بعد هجمات في باريس - (أرشيفية)

وتأخر إدراك الباحثين الجامعيين الفرنسيين والاستخبارات الفرنسية دور مواقع التواصل الاجتماعي الراجح في بث التطرف الى ربيع 2014. وقبل هذا التاريخ، لم ترصد حركة الجهاديين على هذه المواقع، وتفاجأ المتطرفون من قدرتهم على مغادرة البلاد من غير معوق. وسرت شائعة مفادها أن السلطات الفرنسية تغض النظر عن رحيلهم الى سورية لتتخلّص من مصادر الخطر. لكن بعد 2014، ضغطت الدول على وسائط التواصل الاجتماعي لحملها على مراقبة المحتوى.

والقول إن «الجهادية» في فرنسا هي ثمرة الطائفية أو «الجماعاتية» في غير محلّه. فالجامع بين الشباب الفرنسي «الجهادي» عيشه خارج الجماعة والطائفة، وتوقه الى جماعة أو شلة أخوية عالمية، ولو كانت هذه الجماعة نهباً للخلافات الداخلية والتنافس. ويكفر هؤلاء الإسلام الفرنسي، ويسعون الى إطاحته. وقبل رحيلهم الى سورية، وقعت وقع الصدمة على «متحولين الى الداعشية» الدعوة الى المشاركة في الانتخابات الرئاسية في 2012 من منابر الجوامع. وهم يرون أن التصويت الديموقراطي يطيح الإسلام. ومن يقصد الجامع للصلاة نهار الجمعة، يسد أذنيه، أو يصلي في منزله مخافة الاختلاط بـ «الكفار» والإصابة بلوثتهم. ولذا، تأخر أئمة جوامع فرنسا في اكتشاف ظاهرة تشدّد الشباب، واكتشفوها مع عامة الفرنسيين في وقت واحد. وتدعو البروباغندا «الجهادية» الى القضاء على المسلمين الفرنسيين. وينفي شطر راجح من «الجهاديين» صفة المدنية عن عامة الفرنسيين، فهم ليسوا بمدنيين ولا أبرياء. وفي دردشة مع فرنسي وثيق الصلة بهجمات 13 تشرين الثاني المنصرم، أبلغني أن المدنيين في الدول الغربية أعداء، فهم يسددون الضرائب ويمولون الجيوش الغربية. وفي 2015، زادت وتيرة سفر الشباب للالتحاق بـ «داعش»، على رغم الهجمات في فرنسا وذيوع أنباء فظاعات «داعش» في الشرق الأوسط. وتشير وزارة الداخلية الفرنسية الى أن عدد الفرنسيين «الجهاديين» في سورية 600 فرنسي، 160 منهم قتلوا منذ 2012، و260 منهم عادوا الى فرنسا. وحركة العودة توازن حركة المغادرة، وعلى رغم الوفيات، عدد الفرنسيين «الجهاديين» يتزايد، وإن كانت وتيرة الزيادة بطيئة. وبرز مسرح عمليات داعشية جديد في ليبيا يتدفق إليه مقاتلون من تونس والساحل الأفريقي وغانا والسنغال.
***

* صحافي، صاحب «لي فرانسي جيهاديست (الفرنسيون الجهاديون)»، عن «نوفيكسيون» الفرنسي، إعداد منال نحاس