Beirut weather 14.41 ° C
تاريخ النشر June 24, 2016
A A A
سيادة المال والاختلال الأخلاقي
الكاتب: الفضل شلق - السفير

لكل مجال من مجالات النشاط البشري قيمة، المعايير التي يقاس بها الفشل والنجاح، أو السيئ والحسن، إلخ… في السياسة والاقتصاد إلى الموسيقى والفلسفة والمسرح، في القضاء والإدارة، الخ… القيمة في الاقتصاد يعبر عنها المال. المال ليس قيمة بل تعبير عنها، مقياس لها، كأداة تبادل أو اكتناز. يصبح المال وسيطاً بين السلع، يستعمل للبيع والشراء. يبدأ كوسيلة، تاريخياً. مع التطور الرأسمالي يصبح المال غاية. ينتج المزارعون والصناع من أجل المال. يصير المال سلعة لها قيمة. ما ليس له قيمة في الأساس يصير هو القيمة. وما الأزمة المالية الأخيرة في 2008 إلا أزمة تجارة بالمال. ليست التجارة بالسلع بل التجارة بالمال حيث للسلع مكان ثانوي. إذا كانت السلع تنتج من أجل تلبية الحاجات البشرية، ويتم تبادلها على أساس هذه الحاجات، فإن الأمر يتحول، وتصير الحاجة الأساسية هي المال وتنحدر الحاجات البشرية إلى وضع ثانوي. طبعاً، الفقراء المعدمون، وهم أكثر من نصف البشرية، لا بد لهم من تلبية الحاجات الأساسية كالغذاء والسكن للبقاء على قيد الحياة. لكن هذا أمر ثانوي بالنسبة لأصحاب المال.

عندما يصير المال سلعة السلع، حاجة الحاجات، تتسرب قيمه إلى المجالات البشرية غير الاقتصادية؛ يسيطر على السياسة والفن والعلوم والشؤون العسكرية، إلخ… وتخضع قيم هذه المجالات لقيم المال وأصحابه. حتى الجامعات، بما في ذلك أرقاها، تسلك سبيل تتجير التعليم. يتقاضى الأساتذة فيها، حتى العباقرة منهم، أجوراً أقل بكثير من الإداريين الذين يتعاملون بالمال وبالإدارة. صار التعليم، خاصة الجامعي، تجارة. تشهد على ذلك كثرة الجامعات في لبنان، وهي من دون معايير. لكنها ظاهرة عالمية.

مصدر المال في العالم معروف. هو ليس الإنتاج إلا ثانوياً. المصدر الأساسي هو الدولار الذي يُطبع حسب حاجات الدولة التي تطبع ما تريد من الكميات وفي أي وقت تشاء حسب حاجاتها العسكرية وغير العسكرية. والمال يشمل الأسهم وسندات الدين الحكومي والفردي. القوة العسكرية لا القوة الإنتاجية هي الداعم الأساسي. الدولة التي ترعى ذلك هي القائدة عالمياً في محاربة الفساد. تناقض أساسي: الفساد يحارب الفساد. فساد النظام يحارب فساد الأفراد. النظام يجبرك على أن تكرس حياتك للمال. وأنت، إذا كرست وقتك للنشاط الثقافي أو العلمي الذي تهواه نفسك، فمعنى ذلك أنك تقاوم النظام. إما أن يقضي عليك أو يعزلك. إما أن تكسب العالم أو تربح نفسك. تربح نفسك بأن تتبع السلوك الأخلاقي الذي يمليه ضميرك. نظام رأسمالي يريد من جميع الناس اتباع ما هو خارج ضميرهم؛ يريد من الناس أن يكون البارادايم أو النموذج الأساسي والأخلاقي لهم هو السعي من أجل المال، بالتنافس أو بغير التنافس، ومهما كانت الآثار المترتبة على الآخرين. الأكثر من ذلك، تصبح جميع أفكارك وما تكتبه رهناً بما يرضي أصحاب المال في الوسائل التي تبرمج وتمول النشر. لا يبقى من المحافظين على أخلاقهم سوى القلة، وهؤلاء لا نجاة لهم إلا إذا كان لديهم بعض الوسائل المادية والمالية التي تعيل عزلتهم الفكرية. لا يحتاج هذا النظام إلى القمع والإكراه، ولا إلى السجون والرقباء، يحتاج فقط إلى القوة الناعمة كي يحقق ما يريد وكي يفرض إرادته. نظام يُغرِق الأدمغة بفيض الإغراءات المشهدية، إعلامية تلفزيونية؛ يقصف الوعي يومياً دون توقف، يعيد تشكيل الوعي. أهم ما في إعادة تشكيل الوعي هو النموذج المالي الذي كلما ازداد الناس اقتناعاً به، وكلما تخلوا عن أخلاقهم للحاق به، كلما ابتعد عنهم، بالأحرى كلما انخفضت فرصهم للحاق به وتحقيق ما وُعدوا به من الثروة. أنت تنشد المال، إذ إن النظام يريدك كذلك، والمال يبتعد عنك، إذ هو يتراكم في أيدي القلة التي لا تتجاوز 0.1% من كل مجتمع.

مع تقدم الحداثة الرأسمالية (المالية)، تنشأ اختلالات أخلاقية سببها نشوء قيمة للمال وطغيان هذه القيمة على كل المجالات الأخرى العلمية والثقافية وكل ما يتعلق بالوعي. ينشأ الفرد الذي يحسب أنه حقق فرديته بما يتاح له من أخذ قرارات فردية. ما لا يعيه أن قراراته الفردية ممسوخة سلفاً بكونها موجهة نحو مجموعة قيم واحدة يفرضها المال والسعي وراءه والذهنية التي تنشأ عن ذلك.
تحسب أنك تحقق نفسك. الواقع أنك تحقق ما يريده لك غيرك. الأخلاق أن تفكر وأن تفعل كما يريده ضميرك، لكن ضميرك مصادر.