كتب ناصر قنديل في “البناء”
لا يمكن فصل ما شهدته سورية خلال الأيام القليلة الماضية حتى ليل أمس، وما يمكن أن تشهده في الأيام المقبلة، عن الكلام الذي قاله وزير المالية في حكومة بنيامين نتنياهو بتسلئيل سموتريتش عن تفكيك سورية وتفتيتها كهدف جديد من أهداف الحرب التي بدأت غداة طوفان الأقصى، ويمكن لأيّ متابع أن يلاحظ أن انتقاء سورية كساحة للتفتيت والتفكيك، بعدما كانت العين على لبنان لهذا الغرض غداة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والعبث بالعلاقة بين المكونات الطائفية، كما ظهر في حرب الجبل عام 1983، بما يعنيه من فك وتركيب بنيوي للكيان السياسي، مقابل الاكتفاء بأهداف أمنية وسياسية في سائر الساحات، هو تعبير عن التعامل مع الوضع الجديد في سورية كفرصة تاريخية استثنائية لكيان الاحتلال لا يجوز تفويتها، تماماً كما كان النظر عام 1982 لاجتياح لبنان.
– الأساس دائماً سياسي، رغم أن سورية حاضرة دائماً في العقل الإسرائيلي كرأس اللائحة المستهدفة، لكن ما رافق الأحداث التي أعقبت حرب الطوفان وسقوط النظام السابق في سورية، وما ترتّب عليه من تغيير جيو استراتيجي في المنطقة وتوازناتها، لم يكن كافياً لتعتبر “إسرائيل” إبعاد إيران وحزب الله وقطع طريق إمداد المقاومة، أهدافاً كافية أو أنها نتائج تستحق تقدير الحكومة السورية الجديدة والحرص على تمكينها من بسط سيطرتها ومساعدتها في حفظ مهابتها، بل النظر إليها كمقدّمات للمضي قدماً نحو فعل أكبر عنوانه تفتيت وتفكيك سورية، عملاً بقناعة الاستعمار الغربي منذ أيام الجنرال الفرنسي هنري غورو، بأن السيطرة على المنطقة لا تتحقق مع سورية موحّدة، وهذا معنى عودة “إسرائيل” إلى خرائط غورو وتسميات دويلات منشودة في سورية.
– رغم ما تتحدث عنه “إسرائيل” من منجزات في جبهاتها الأخرى فهي محكومة بمعادلات وتوازنات يصعب كسرها، جبهة غزة ترتبط عضوياً بجبهة اليمن، حيث أميركا عرضة لحرب استنزاف لا يمكن وقفها دون وقف الحرب على غزة، وجبهة غزة ترتبط أيضاً بوضع داخليّ معقد يضع قضية الأسرى كأولوية وتدفع الخشية على مقتلهم إلى تبني نسبة 75% من الرأي العام مطلب إنهاء الحرب، وفي جبهة إيران يصعب على “إسرائيل” التحرك من وراء ظهر أميركا، او بما يتعدى السقف الذي ترسمه، سواء لأن إيران ملف أميركي قبل أن يكون إسرائيلياً، أو لأن مقتضيات الحرب ومستلزماتها فوق طاقة “إسرائيل” وحدها، أو لأن للحرب نتائج وتداعيات لا تستطيع “إسرائيل” تحمّلها دون مساندة أميركية.
– في جبهة لبنان، لا قدرة لـ”إسرائيل” على الذهاب إلى العودة للحرب ما دام حزب الله لم يعُد إليها، لأن من يعود إلى الحرب أولاً يمنح الآخر مشروعيّة العودة، في ظل توازن قوى ظهر بعد الحرب البرية في الجبهة الأمامية جنوب لبنان أنه عصيٌّ على الكسر وتحقيق انتصارات تغير المعادلات. وبعد وقف إطلاق النار فشلت محاولات تفكيك البنية السياسية الداخلية، فتمكنت المقاومة من التموضع بطريقة تتيح مطالبة الدولة بالتصريح علناً أن المقاومة نفذت التزاماتها وان ما يحول دون تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار والقرار 1701 هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية، واعتبار استحقاق البحث بسلاح المقاومة بعد إنهاء الاحتلال ووقف الاعتداءات والتمسك بأن يكون حل السلاح عبر الحوار. وهذه ثلاثية تقفل الساحة اللبنانية أمام العبث الإسرائيلي، وقد فشلت محاولات تغيير الأولويات بصورة تمنح “إسرائيل” فرصة التحرك.
– في سورية حصلت “إسرائيل” على التزام تركي وسوري باحترام خطوطها الحمراء، بما فيها اعتبار المناطق الجنوبية مساحات عمل إسرائيلية، والامتناع عن بناء جيش قوي في سورية وعن إقامة قواعد تركية وصرف النظر عن معاهدة دفاع سورية تركية، وصولاً لما نقله السيناتور الأميركي كوري ميلز عن استعداد الحكومة السورية للانضمام إلى اتفاقات إبراهام، وعدم اعتبار احتلال الجولان عقبة أمام ذلك، وهذه المكاسب صارت في جيب “إسرائيل” دون أن تقدم هي أو أميركا أي تعهدات، لذلك فتحت الشهية الإسرائيلية على المزيد، وهي تجد في البنية ذات اللون الواحد المذهبي والعقائدي والحزبي للحكومة والمؤسسات العسكرية والأمنية، خصوصاً بعد مجازر الساحل المرتكبة بحق أبناء الطائفة العلوية، بعد دق النفير عبر المساجد في كل سورية للجهاد، وما أعقب ذلك من حل ذعر طائفي وعرقي لدى جميع المكونات، فرصة للاستثمار لوضع مشروع تفتيت سورية وتفكيكها على الطاولة.
– ما جرى وما يجري خطير جداً على مستقبل سورية، وما منع الجنرال غورو من تنفيذ مشروعه القرن الماضي ليس موجوداً اليوم بغياب قادة من طراز سلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي وعبد الرحمن الشهبندر، وما لم تتم إعادة تشكيل المشهد السياسي والحكومي والأمني والعسكري بصورة تشاركية تطمئن الجميع فإن المشهد القائم لا يبشر إلا بالمزيد من الاشتعال.