Beirut weather 17.11 ° C
تاريخ النشر November 25, 2025
A A A
سليمان فرنجيه… بلا مواربة
الكاتب: دافيد عيسى

 

كتب دافيد عيسى

يخرج رئيس تيار المرده سليمان فرنجيه بكلامه المتلفز في لحظة سياسية لا تحتمل المواربة.
وفي لحظة يقف فيها لبنان على فوهة بركان، والمنطقة تغلي فوق خطوط تماس جديدة، فيما الداخل يتخبّط بين مبادرات مبتورة وتسويات معلّقة وانقسامات تتناسل كل يوم.
وفي زمن يختبئ فيه كثيرون خلف شعارات مفيدة وغير مفيدة، جاء حديث فرنجية ككلمة فصل في زمن الفوضى.
تابعتُ الوزير السابق سليمان فرنجيه على قناة “الجديد” مع الإعلامية القديرة والمميّزة سمر أبو خليل، فبدا الرجل كما هو: واضحًا، صريحًا، لا يبيع الأوهام، ولا يتقن لعبة التجميل السياسي. يتكلّم كما يفكّر، ويقول ما يراه حقًا بلا مجاملة، وهذه ليست ميزة شائعة في بلد يتقن فيه معظم السياسيين فنّ التلوّن وتبديل الأقنعة.
سليمان فرنجيه… يمكنك أن تتفق معه أو تختلف معه في السياسة، لكن لا يمكنك ألّا ان تحترمه، وتحترم صدقه “فهو لا يوارب” ويتصرف بصدق وشفافية، ولا يستخدم المخادعة والخداع.
سليمان فرنجيه ليس من الصنف الذين أفرزهم ظرف طارئ أو رفعتهم موجة عابرة، إنه زعيم ماروني اب عن جد، وابن عائلة سياسية عريقة لها تاريخها.
كثيرون راهنوا على سقوطه بعد سقوط بشار الأسد وبعد تبدّل الرياح الإقليمية، لكنه بقي هو هو واقفًا، صلبًا، صادقآ في مواقفه، دون ان يخسر من شعبيته.
منذ اللحظة الأولى للمقابلة، بدا فرنجية شفافآ إلى حدّ الإرباك. تحدّث عن السلم الأهلي كخطّ أحمر غير قابل للمساومة، مؤكّدًا أن الحرب الأهلية ليست احتمالًا ولا خيارًا، بل جنونٌ لن يسمح به.
وهذا الكلام ليس ترفًا، بل موقفًا وطنيًا وأخلاقيًا.
وفي حديثه عن المواطنة، طرح الرجل فكرة أعمق مما اعتدناه. قال إن الانتماء «ثقافة وعِلم».
قد تبدو الجملة بسيطة، لكنها في واقع السياسة اللبنانية أشبه بثورة.
فهنا، حيث تُستخدم الهويات الطائفية للحماية حينًا وللاستثمار حينًا آخر، يأتي فرنجيه ليقول إن الوطنية ليست شعارًا بل مسؤولية، وإن الدولة لا تُبنى فوق رمال الخوف بل فوق وعي الناس.
ولم يهرب من واقع المنطقة وتعقيداتها. تحدّث بصراحة عن خطورة المشاريع التي تتقاطع فوق رؤوسنا، وقال بوضوح إن لبنان لم يعد مستباحًا كما كان في السبعينات، وإن الوعي الحالي أكبر من أن يسمح بتكرار المآسي نفسها.
ومع ذلك، لم يخفِ قلقه العميق على مصير الأقليات، وهو قلق لا يسمعه المرء كثيرًا في زمن تُمحى فيه الهويات الأصيلة تحت أقدام الصراعات الكبرى.
وعندما جاء على ذكر السلاح، تكلّم بلغة مختلفة. لم يرفع شعارات بلا مضمون، بل قدّم مقاربة عقلانية تقول إن حصرية السلاح منصوص عليها، لكن الوصول إليها لا يكون بالتحدّي، بل بخطوات تدرّجية تبني الثقة بدل أن تنفجر في وجه البلد. وربما يزعج هذا الكلام البعض، لكنه يبقى الأكثر واقعية في بلد معقّد.
وفي مقاربته للعلاقة مع الخارج، قال ما يخشاه كثيرون: «لا أحد يعمل لمصلحة لبنان سوى اللبنانيين». عبارة تختصر الكثير.
وانتقد عقلية التسوّل السياسي ورفض الهبات المشروطة التي تُستخدم كالطُّعم، مشددًا على أن البلد يحتاج استثمارات تحترم سيادته، لا فتاتًا سياسيًا يُفرض معه ثمنٌ مُضمَر.
وحين تحدّث عن الرئيس جوزيف عون، قالها بصراحة: دعمته بلا مقابل وبلا مناورة، ومن لم يفهم ذلك آنذاك يفهمه اليوم.
وعن علاقته بالرئيس نبيه برّي، تحدث فرنجيه بصراحته المعهودة عن أن الخلاف مع الرئيس برّي جاء نتيجة عدم اندفاع الأخير في تأييد النائب فريد الخازن للرئاسة رغم التوافق بينهما على ذلك، عندما كانت المعطيات مغلقة أمام وصول الرئيس جوزاف عون إلى بعبدا، وفضّل برّي حينها دعم العميد جورج خوري.
وأضاف: إن الشراكة السياسية الحقيقية لا تتبدّل عند أول هبّة هواء ولا عند أول اختلاف في التفاصيل.
ولم يمرّ مرور الكرام على علاقته بالبطريرك بشارة الراعي. قال عتبه بكل احترام، لكنه قاله. ذكّر بأن سيد بكركي رفعه مرشحًا في الفاتيكان ثم عاد ليضعه في خانة «مرشّح الثنائي». وهذه صراحة لا يقدم عليها إلا من يعرف مكانته ولا يخشى الخسارة.
أما في ملف إهدن والمصالحات، فقدّم فرنجيه درسًا أخلاقيًا قبل أن يكون سياسيًا. قال إن الحقد لا يبني دولة، وإن الذاكرة يجب أن تُحفَظ لا لتصبح سلاحًا، بل لتصبح حكمة. هذا الكلام لا يقوله إلا من عانى ودفع الثمن.
في موقعه السياسي، يبدو فرنجيه اليوم لاعبًا توافقيًا لا يناور ولا يتلوّن. لا يطرح نفسه مرشح تحدٍّ، ولا يقبل أن يكون جزءًا من محور مغلق. هو رجل يعرف حجمه، ويعرف ماذا يمثّل، ويعرف أن اللحظة اللبنانية تحتاج إلى من يستطيع جمع المتخاصمين لا من يضيف جرحًا جديدًا.
وفي نهاية المقابلة، ظهر جليًا أن قوّة الرجل تأتي من الناس، من علاقة صادقة لا تُشترى ولا تُفبرك. وهذا بالضبط ما يفسّر ثباته، واستمراره، واحترام خصومه قبل محبّيه.
سليمان فرنجيه قدّم في هذه المقابلة صورة الزعيم الذي لا يهزّه تبدّل الزمن، ولا تُغريه المناصب، ولا تُغيّره التحالفات.
سليمان فرنجية يجمع بين الواقعية والصلابة، بين الانفتاح والوفاء، بين السياسة والأخلاق.
في بلد يتغيّر فيه الناس، بقي هو نفسه.