Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر January 28, 2021
A A A
سبعة مليارات من المغتربين منعت السقوط الأخير
الكاتب: علي نور - أساس ميديا

من ناحية سعر الصرف ووضع القطاع المالي، قليلة هي الأمور التي يمكن الرهان عليها اليوم قبل الوصول إلى النموذج الفنزويلي، أي إلى حالة الانهيار التام المتفلّت من أي ضوابط. فالقطاع المالي متروك في أزمته بغياب أي خطّة رسميّة أو حتّى رؤية للمعالجة، باستثناء تعاميم إعادة الرسملة التي أصدرها حاكم مصرف لبنان، والتي يحيطها الغالبيّة الساحقة من الخبراء بشكوك حول قدرتها وحدها على إنعاش القطاع وإعادة الانتظام إليه. ومع حالة انعدام الثقة بالقطاع المالي، يصبح من الصعب الرهان على إعادة ضخّ العملة الصعبة إليه من الخارج.

خلال السنة الماضية، بلغ عجز الميزان التجاري، أي الفارق بين صادرات لبنان ووارداته، نحو 5.25 مليار دولار لغاية شهر أيلول، أي نحو 7 مليارات دولار على أساس سنوي، وهو ما يمثّل حاجة لبنان السنويّة من العملة الصعبة لتمويل وارداته. مع العلم أن هذا العجز تخطّى حدود الـ15.5 مليار دولار في السنة السابقة. لكنّ هبوط سعر صرف الليرة وتراجع الإستهلاك في ظل الأزمة الاقتصاديّة أدّى إلى انحسار هذا العجز وتراجعه إلى هذه الحدود.

في مقابل هذه الحاجة التمويليّة الكبيرة، لا يوجد مصدر قائم حاليّاً للعملة الصعبة باستثناء تحويلات المغتربين، التي حافظت على وتيرتها المرتفعة بالرغم من تراجع الظروف الاقتصاديّة في بلدان المهجر، فتجاوزت خلال العام الماضي حدود 7 مليار دولار، ما يكفي وفقاً لأرقام السنة الماضية لتغطية فاتورة الإستيراد والفارق بين صادرات لبنان ووارداته. مع العلم أن هذه التحويلات بلغت 7.41 مليار دولار في العام السابق، ما يعني أنّ أزمة تفشي وباء كورونا وما رافقها من تراجع في أداء الإقتصادات العالميّة لم تترك الكثير من الأثر على هذه التحويلات كما كان متوقّعاً.

ما تعنيه هذه الأرقام ببساطة هو أن مليارات المغتربين السبعة تمثّل حبل النجاة الأخير الذي يرفد السوق المحلي بالدولارات، ويمنع اتجاه البلاد إلى سيناريوهات الهبوط المفرط والسريع في سعر الصرف، لا بل وتكفي هذه المليارات لسداد فاتورة الإستيراد المحلي. لكنّ هذه المليارات السبعة غير كافية حكماً لمعالجة أزمة القطاع المالي الأكبر، خصوصاً أن عجز المدفوعات الذي يلخّص صافي الأموال التي دخلت وخرجت من النظام المالي، تجاوز 10.2 مليار دولار حتّى شهر تشرين الثاني من العام الماضي. ما يعني أن حجم الأموال التي تخرج من النظام المالي باتت أصعب وأشد تعقيداً من تمويل الإستيراد وحدها. مع العلم أن ما بات يُعرف بفجوة الدولار في مصرف لبنان، أي الفارق بين التزاماته وموجوداته السائلة بالعملة الصعبة، تجاوزت اليوم 54.2 مليار دولار.

في هذه النقطة تشير مصادر مطلعة في المصرف المركزي إلى أن المصرف يراهن على آليات تنفيذ التعميم رقم 154، لضخ السيولة في شرايين النظام المالي، وتمكين المصارف من الإمتثال لشروط تكوين الأرصدة المطلوبة بالدولار الطازج في حساباتها لدى المصارف المراسلة وفقاً لخطة مصرف لبنان لإعادة رسملة القطاع. هذه الآليات تنص على قيام المصارف بحث المودعين لديها، الذين قاموا بتحويلات تفوق قيمتها 500 ألف دولار، في الفترة الممتدة بين أوّل تموز 2017 وتاريخ صدور التعميم في 27 آب 2020، بإعادة 15% من هذه الأموال إلى المصارف، على أن تقوم المصارف باستعمال هذه السيولة لتغذية حساباتها الحرّة، أي حساباتها العملات الأجنبية في الخارج. أما بالنسبة لكبار مساهمي المصارف وأعضاء إدارتها التنفيذيّة والأشخاص المعرّضين سياسيّاً، فينبغي أن يعيدوا 30% من قيمة هذه التحويلات إلى النظام المصرفي.

من الناحية القانونيّة لا يوجد مواد يمكن الارتكاز عليها لإجبار أصحاب هذه التحويلات على إعادة هذه النسبة إلى النظام المصرفي، خصوصاً أن هذه التحويلات جرت بغياب أي قانون “كابيتال كونترول” يمنع إجراءها. لكنّ مصرف لبنان يراهن على عصا “قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب” الغليظة، من خلال الطلب من مفوّضي الرقابة التحقّق من تنفيذ مضمون هذا التعميم، وإبلاغ هيئة التحقيق الخاصّة بتفاصيل العمليات التي يشتبهون بأنها تنطوي على عمليات تبييض أموال. بمعنى آخر، يلوّح مصرف لبنان هنا بفتح ملفات هذه التحويلات على مصراعيها بالنسبة للعملاء غير الممتثلين، مع كل ما يعنيه ذلك من ملاحقات وتحريات تؤرق هؤلاء العملاء. مع العلم أن فتح باب البحث عن حالات تبييض الأموال، يشمل حكماً التهرّب الضريبي، الذي يُعد وفقاً للقانون أحد أشكال تبييض الأموال.

تشير مصادر مطلعة في المصرف المركزي إلى أن المصرف يراهن على آليات تنفيذ التعميم رقم 154، لضخ السيولة في شرايين النظام المالي، وتمكين المصارف من الإمتثال لشروط تكوين الأرصدة المطلوبة بالدولار الطازج في حساباتها لدى المصارف المراسلة وفقاً لخطة مصرف لبنان لإعادة رسملة القطاع

بمعزل عن كل هذه الخطة، تشير مصادر مصرفيّة إلى أن تعامل القطاع المصرفي مع التعميم تتفاوت بين مصرف وآخر. فلجأت بعض المصارف الكبيرة إلى الرهان على بيع فروع خارجيّة لتحقيق نسبة السيولة المطلوبة في المصارف المراسلة، بينما قامت بمراسلة أصحاب التحويلات المشمولة بالتعميم رفعاً للمسؤوليّة دون الكثير من المتابعة ودون الرهان عليهم لتكوين نسبة السيولة التي طلبها مصرف لبنان. أما المصارف الأصغر حجماً فقامت بوضع جهد أكبر لمتابعة تنفيذ التعميم من قبل العملاء.

لكنّ الأكيد بالنسبة إلى مصادر مصرف لبنان هو أن مصرفي عودة ولبنان والمهجر تمكّنا من الامتثال لشرط تكوين السيولة بالعملة الأجنبيّة في المصارف المراسلة مما سيعطي جديّة أكبر لهذا المسار، وسيفرض على المصارف الأخرى أن تسعى إلى الامتثال وفق هذا الشرط.

في الخلاصة، يبقى من الأكيد أنّ مسار تكوين السيولة في المصارف المراسلة وفقاً للتعميم 154 الذي يراهن مصرف لبنان عليه اليوم يمكن أن يساعد المصارف على تكوين بعض الأرصدة الماليّة المفيدة لتحريك القطاع، لكنّ هذا المسار غير قادر على المدى البعيد على إعادة الإنتظام إلى القطاع المصرفي أو إعادة أموال المودعين. فحجم الخسائر المتراكمة في القطاع، أي في المصارف التجاريّة ومصرف لبنان معاً، بات أكبر بكثير من حجم الأموال التي ستتأمّن من خلال آليات هذا التعميم، والمطلوب اليوم خطة كاملة لتوزيع الخسائر وإعادة هيكلة القطاع، وهذه مسألة يستحيل تحقيقها دون خطة حكوميّة كاملة المعالم.