Beirut weather 16.88 ° C
تاريخ النشر January 25, 2018
A A A
“زهور” … تزيّنت بالسلاح وقاتلت حتى الشهادة!
الكاتب: العهد

عادت “زهور” من أرض المعركة جثمانا ملفوفا بالعلم الوطني السوري ووقف زوجها “شعبان” وابنها “ملاذ” على عتبة بيتهما يستقبلان من كانت يوما تستقبلهما بالزغاريد غب عودتهما من أرض المعركة.
لم يطف ببال المقاتلَين في الجيش العربي السوري أن المرأة التي كانت تعد لهما مائدة الطعام ستسبقهما في مضمار الشهادة، لم يخطر لهما أن يقفا في الصف على غير مألوف يوميات الحرب السورية ليتقبلا العزاء والتبريك بالزوجة والأم التي آثرت دون بقية أترابها من النساء أن تتزين “بالسلاح” لتصبح القدوة في شهادتها كما كانت يوما في حياتها.
لحظة الاستشهاد
انقطعت الاتصالات مع المقاتلة زهور التي كانت تحارب المجموعات الإرهابية المسلحة في منطقة “الرهجان” في ريف حماة الشرقي، تمرسها في القتال إلى جانب الجيش العربي السوري واعتيادها على خوض الاقتحامات، لم يحولا دون تسرب القلق إلى نفس زوجها ابراهيم وابنها ملاذ، خبر الرجلان اندفاعتها في المعارك منذ أن قررت “ذات موقف” أن تخلع عنها زينة النساء لتتزين بـ”السلاح” وحده في حرب أدركت بحدسها العفوي، أنها معركة الكرامة التي يجب أن يتجند الجميع لها رجالا ونساء.
سأل شعبان وملاذ كثيرا عن مصير زهور قبل أن يأتيهما “الخبر اليقين” من مقاتل كان معها لحظة الاقتحام “رأيتها تنزف وقد أصيبت بعدة رصاصات قاتلة.. كثافة النيران حالت دون وصولنا إليها، عليكما أن تتعاملا مع حقيقة أن فكرة بقائها على قيد الحياة أو الأسر شبه مستحيلة بل هي المستحيل بعينه”.
عند هذا الحد من اليقين وجد شعبان وملاذ الكثير من العزاء فاليأس إحدى الراحتين أما “بقاءها أسيرة لدى مسلحين لا يملكون من الأخلاق ذرة واحجة، فهذا ما لا يمكن أن نتصوره، والحمد لله الذي جبر خاطرنا بعدم حصوله، أما شهادتها فهي الوسام الذي نفخر به أبد الدهر”، يقول زوجها شعبان لـ”موقع العهد” مضيفاً: “منذ تطوعت أنا وملاذ في صفوف الجيش والقوات الرديفة وهي تصرّ على أن تفعل مثلنا، حاولنا ثنيها على اعتبار أن أحدا لم يلزمها بذلك كما يمكنها أن تؤدي واجبها من موقعها كزوجة وأم، لكنها كانت تأبى، وأمام إصرارها العجيب لم يكن أمامنا إلا الرضوخ لموقفها الذي لم نكن معترضين عليه في الأصل وإن كنا مقهورين من فكرة أنها سبقتنا إلى الشهادة”.
العودة الأخيرة
أما “ملاذ” ابن الشهيدة زهور، فقد قال لـ “موقع العهد”: “في اللحظة التي وصل فيها جثمان والدتي زهور إلى البيت، بعد أن احتاج استحضاره من أرض المعركة 38 يوما، فهمت أنا ووالدي لماذا كانت أمي تصر على التطوع في الجيش ولماذا كانت تقتحم في المعارك، يبدو أنها خشيت أن تقف في الموقف الذي نحن فيه الآن، فاختارت أن نبكيها بدل أن تبكينا أو تبكي أحدنا، لقد بقيت حنونة حتى في اللحظة التي دخلت فيها البيت للمرة الأخيرة وهي ملفوفة بعلم البلاد، لقد جعلتني أحمل عبئا كبيرا، وإصرارا أكبر على الثبات في المعركة”.
توافد المعزين والمباركين إلى المبرة الواقعة في أحد أحياء حمص، (الشهيدة زهور من حي الزهراء في حمص وتسكن مع عائلتها حي وادي الذهب في حمص أيضاً) لم يمنعا شعبان وابنه ملاذ من الحديث إلينا عن “زهور” التي كانت رفيقة السلاح مع زوجها وابنها في أغلب المعارك التي خاضها الجيش والقوات الرديفة في أرياف حمص وحماة.
أسرة مقاومة
وأمام النعش المحمول على الأكف وقف ملاذ يلقي النظرة الأخيرة على والدته التي أوشكت أن توارى الثرى، الرجولة البادية على وجهه الطفولي لم تستطع أن تمنع دمعة نزلت بعد جهد جهيد على صفحة خده، لكنه بقي رجلا حتى وهو يغالب دموعه، تشهد على ذلك الابتسامات التي كان يلقيها على كل من جاء يربت على كتفه ويواسيه، فالفخر بما فعلت والدته هو الوجه الآخر للحزن، وهو الزاد في قادمات الأيام.
على خطى من سبقها
رحلة زهور مع الشهادة لم تكن فقط من ترتيب الأحياء، فثمة حبيب ساهم في رسم أقدارها وهو تحت الثرى، شقيقها “محسن” الذي كان باكورة الشهداء في العائلة، من يومها أخذت حياة زهور منحى آخر، فلقد خلعت عنها وبشكل نهائي صورة ربّة الأسرة، لتصبح مقاتلة تقتحم على الردى إهابه وهي بعد “سيدة كاملة الأنوثة، أعطتها البدلة العسكرية أنوثة من نوع آخر، وبقي لها من اسمها نصيب.. زهرة ومقاتلة”، كما تقول أختها صباح لـ “موقع العهد”، أما أخوها أحمد فيؤكد ان “مشهد رحيلها لم يفارقه يوما.. وأنه كان يقرأ الغياب على صفحة وجهها المسلم بالكثير من السكينة والإطمئنان لقدره”.
عند المساء وحين فارق المعزون المبرة وشدّوا على يديهما مفارقين عاد شعبان وابنه ملاذ إلى بيت فارق زهرته، لكن عطرها بقي يتربص بذاكرتهما كتربص المكان، وصورتها المرتفعة على الحائط تعظ من دون وعظ وتشحذ الهمم لمعارك قادمة ستكون فيها “رفيقة السلاح” الحاضر الغائب.