تتكرّر الاعتداءات الإسرائيلية على المناطق السكنية في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، وآخرها في حي ماضي المكتظ، فجر الثلاثاء، والذي يضاف إلى مئات الاعتداءات المتواصلة، بما يشكل خرقاً لـ«إعلان وقف الأعمال العدائية والالتزامات ذات الصلة بشأن تعزيز الترتيبات الأمنية وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701» الذي التزم به الطرفان في 27 تشرين الثاني 2024.
وقد جاء في هذا «الإعلان» أن الولايات المتحدة وفرنسا تدركان «أن لبنان وإسرائيل يسعيان إلى إنهاء التصعيد الحالي للأعمال العدائية عبر الخط الأزرق بشكل مستدام». لكن، مع تكرار «الاعمال العدائية» الإسرائيلية، هل لا تزال الولايات المتحدة وفرنسا «تدركان» ذلك؟ وهل «إسرائيل» مستعدة فعلاً «لاتخاذ خطوات لتهيئة الظروف التي تفضي إلى حل دائم وشامل»؟
بمراجعة الالتزامات المنصوص عنها في هذا الإعلان / الاتفاق يتبين أن العدوان الإسرائيلي على لبنان مستمر بينما تقوم الدولة اللبنانية بكل ما اتفقت بشأنه مع الأميركيين والفرنسيين:
فقد جاء في النص الرسمي أن «إسرائيل» ولبنان سينفذان «وقف الأعمال العدائية وفقاً للالتزامات المفصلة أدناه: (…) ستمنع حكومة لبنان حزب الله وجميع المجموعات المسلحة الأخرى في أراضي لبنان من تنفيذ أي عمليات ضد إسرائيل». وباعتراف قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، ينتشر الجيش اللبناني في الجنوب ويمتنع حزب الله عن «تنفيذ أي عمليات ضد إسرائيل». وفي المقابل، يفترض أن تمتنع «إسرائيل» عن القيام بـ«أي عمليات عسكرية هجومية ضد أهداف لبنانية، بما في ذلك الأهداف المدنية والعسكرية، أو أي أهداف أخرى تابعة للدولة، في أراضي لبنان، سواءً براً أو جواً أو بحراً».
الالتزام الثاني الوارد في النص هو وجوب اعتراف «إسرائيل ولبنان بأهمية قرار مجلس الأمن رقم 1701 في تحقيق السلام والأمن الدائمين، ويلتزمان باتخاذ الخطوات اللازمة نحو تنفيذه بالكامل من دون أي انتهاك». وتدل صياغة نص الإعلان إلى عملية مرحلية تتمثل بوجوب اتخاذ «الخطوات اللازمة» نحو التنفيذ. وبالتالي، يسير الجيش اللبناني منذ تشرين الثاني من العام الماضي خطوات في هذا الاتجاه تتمثل ببسط سلطته الكاملة جنوب نهر الليطاني.
الالتزام الثالث هو إخضاع «أي مبيعات أو إمدادات للأسلحة والمعدات ذات الصلة إلى لبنان للمراقبة والتنظيم من قبل حكومة لبنان من أجل منع إعادة تشكيل وإعادة تسليح المجموعات المسلحة غير التابعة للدولة في لبنان». وفي هذا الإطار، يقوم الجيش بمصادرة أسلحة وبتسيير دوريات واقامة حواجز تفتيش في الجنوب والبقاع وصولاً إلى بيروت والضاحية الجنوبية.
كما تلتزم الحكومة اللبنانية منذ تشرين الثاني 2024 بـ« (1) مراقبة وتنفيذ الإجراءات ضد أي دخول غير مصرح به للأسلحة والمعدات ذات الصلة إلى لبنان وعبره (…)، (2) بدءاً من منطقة جنوب الليطاني، تفكيك جميع المنشآت المشاركة في إنتاج الأسلحة والمعدات ذات الصلة، ومنع إقامة مثل هذه المنشآت في المستقبل و(3) بدءاً من منطقة جنوب الليطاني، تفكيك جميع البنى التحتية، والمواقع العسكرية، ومصادرة جميع الأسلحة غير المصرح بها».
تنفيذ هذه الالتزامات يبدو مرحلياً كما تشير الصياغة، والمطلوب من الحكومة اللبنانية أن تبدأ بتطبيق الإجراءات من جنوب الليطاني. لكن النص يتضمن كذلك إشارة واضحة إلى أن الحكومة اللبنانية ملزمة بتطبيق الاتفاق «عند بدء تنفيذ وقف الأعمال العدائية». ألا يعني ذلك أن عدم التزام العدو الإسرائيلي بـ«وقف الأعمال العدائية» يعطّل تنفيذ الإعلان / الاتفاق؟
العدو الإسرائيلي يدّعي أن عدم التزام الحكومة اللبنانية بالتطبيق الكامل والشامل للالتزامات التي ينصّ عليها الإعلان / الاتفاق يمنحه حق شنّ هجمات حربية على لبنان. لكن هذه الحجة لا تنطبق على الاعتداء الذي استهدف الضاحية فجر الثلاثاء، أولاً لأن نصّ الإعلان / الاتفاق يلزم العدو الإسرائيلي بعدم تنفيذ «أي عمليات عسكرية هجومية ضد أهداف لبنانية، بما في ذلك الأهداف المدنية والعسكرية» مقابل منع حكومة لبنان «حزب الله وجميع المجموعات المسلحة الأخرى في أراضي لبنان من تنفيذ أي عمليات ضد إسرائيل»؛ ثانياً لأن العدو الإسرائيلي لم يبلّغ مسبقاً (كما يفرض الاتفاق) قوات الـ«يونيفل» في لبنان أو الأميركيين أو الفرنسيين بالانتهاكات اللبنانية المزعومة للإعلان / الاتفاق.
صحيح أن الأخير ينص صراحة على أنه «لا يقيّد أياً من إسرائيل أو لبنان من ممارسة حقهما الطبيعي في الدفاع عن النفس، بما يتماشى مع القانون الدولي»، لكن الولايات المتحدة وفرنسا (وهما من أكثر الدول الداعمة لـ«إسرائيل») لا تكترثان لمحرمات القانون الدولي. فلا يكفي أن ينذر المتحدث باسم جيش العدو الإسرائيلي المدنيين بالابتعاد عن المكان المستهدف قبل استهدافه (وهو ما لم يفعله العدو قبل قصفه منطقة سكنية فجر الثلاثاء)، بل يحدد القانون الدولي الإنساني قواعد لحماية المدنيين والحد من الدمار في الحروب، منها مبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، ومبدأ التناسب لتجنب الخسائر المفرطة، ومبدأ الاحتياط لتقليل الأضرار. ولا شك في أن العدو الإسرائيلي لم يعر أي اهتمام لكل هذه المبادئ في زمن التفلّت الإسرائيلي و«الأعمال العدائية» خلال مدة وقف إطلاق النار.