كتب يحيى دبوق في “الأخبار”:
بدأت إسرائيل، فجر أمس، عملية عسكرية واسعة النطاق استهدفت مواقع إيرانية استراتيجية، وركّزت على البنية التحتية المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، والمنشآت العسكرية الحيوية.
وعلى الرغم من الاختلاف في قراءة النتائج المباشرة للضربة المتواصلة، إلا أن ما سيليها ربّما يكون أوسع وأشمل وأكثر عدوانية من الجانبَين، فيما يبقى أكيداً أن المنطقة دخلت مرحلةً جديدة من الصراع، لا تزال في بدايتها.
ولعلّ السؤال الأبرز في كل ما يجري هو ما إذا كان أحد الطرفَين يستطيع تحقيق تفوّق استراتيجي ينهي المواجهة لمصلحته، وما إذا كانت الضربة موجّهة فقط نحو تعطيل البرنامج النووي الإيراني، أم أنها جزء من استراتيجية أوسع لم تُعلن بعد؟
الأكيد أنه مع وقوع الردّ الإيراني مساء أمس، انفتح الباب أمام سلسلة ضربات متبادلة بين الطرفين، سيكون الدور الأميركي فيها محوريّاً، سواء لجهة فرملة المواجهة، أو دفعها إلى الأمام. وإذ يُرجّح أن تواصل الولايات المتحدة تقديم دعم استخباري ولوجستي كبيرَيْن لإسرائيل، مع تعزيز دفاعاتها الجوية، من دون تدخّل عسكري مباشر، فإنه في هكذا سيناريو، لا يُنتظر أن يحقّق أيّ طرف انتصاراً حاسماً؛ إذ يمكن أن تخرج إسرائيل بمظهر القوّة الرادعة، بينما تؤكد إيران أنها لم تضعف.
وربّما تكون هذه المرحلة مجرّد بداية تسبق تطوُّر الوضع إلى سلسلة تصعيد متراكم، خاصة إذا أَظهر أحد الطرفَين ضعفاً أو عدم قدرة على تحمّل التكلفة الكاملة للمواجهة، ما سيشجّع الطرف الآخر على محاولة تحقيق أهدافه كاملة، ولا سيما من جانب المعتدي ابتداءً، أي إسرائيل وأميركا.
وفي أعقاب المرحلة الأولى، قد تتحرّك الولايات المتحدة بشكل جدّي لاحتواء الموقف، ومنع الأمور من التدحرج نحو حرب إقليمية شاملة، علماً أن المواقف الصادرة عن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لا تشير إلى نيّة في التهدئة. وفيما تتجاوز الشروط الأميركية الحالية الحدّ المعقول، يرتكز رهان واشنطن على تأثيرات الضربات الإسرائيلية، وهو ما كان ترامب واضحاً فيه: مقابل وقف العمليات العسكرية، يجب أن تستسلم طهران لمطالب تشمل تغييرات جوهرية في سياساتها الخارجية وبرامجها الاستراتيجية.
لكن الصراع لن ينتهي هنا؛ فالضربة الإسرائيلية وحدها لن تكون كافية لتحقيق مطالب واشنطن وتل أبيب، في حين أن الردّ الإيراني سيكون حاسماً في تحديد مسار الأحداث، علماً أن أيّ ردّ ضعيف من جانب الجمهورية الإسلامية، سيحمّلها تبعات داخلية وخارجية كارثية. لكن، هل تتدخّل الولايات المتحدة مباشرة؟
في حال شنّت إيران هجوماً كبيراً على المصالح أو القواعد الأميركية في المنطقة، أو تبيّن أن إسرائيل غير قادرة على صدّ الهجمات الإيراني، قد تقرّر واشنطن التحرّك بشكل مباشر، إمّا على شكل توجيه ضربات جوية مدروسة، أو استخدام منظومات دفاع متقدّمة، وربّما تفعيل تحالفات أمنية مع دول الخليج، ليتحوّل الدعم اللوجستي والاستخباري الحالي إلى دور هجومي أكثر وضوحاً.
وفي المقابل، يبرز من بين السيناريوات المحتملة، اتّخاذ إيران القرار بالردّ ليس فقط عبر وسائل عسكرية أو سياسية، بل أيضاً عبر تحقيق تقدّم ملموس في برنامجها النووي، ربّما في اتجاه تصنيع الوقود النووي المخصّب للاستخدام العسكري، أو حتى الإعلان عن خطوات تقنية تتجاوز القيود الدولية.
ومثل هذا التحرّك، سيكون له تأثير كبير على المعادلة: داخليّاً، لتدعيم موقف النظام أمام الرأي العام الإيراني نفسه؛ وخارجيّاً، كورقة ضغط استراتيجية لإظهار أن الضربة الإسرائيلية لم توقف زخم المشروع النووي، أو تلوِ ذراع إيران. وذلك النوع من الردّ، قد يكون الأكثر تأثيراً على المسار الإستراتيجي للأحداث، كونه يرفع التكلفة السياسية والعسكرية على الخصوم، ويُعيد رسم الحسابات الدولية في شأن كيفية التعامل مع إيران مستقبلاً.
على أي حال، يجدر الانتظار حتى يتبين مدى قدرة إيران على تحقيق الردع، وبالتالي رفع التكلفة على العدو وجعل التصعيد المستمر غير مربح له.
وبناءً على ذلك، سيتحدّد ما إذا كانت الأمور ستنزلق نحو مواجهة طويلة الأمد تُدار عبر ضربات متكرّرة وردود فعل مدروسة، أم ستتّجه نحو فرض شروط سياسية صارمة من قِبَل الطرف الذي يُثبت تفوّقه في الجولة الأولى. وهذا العامل يُقلّل من فرص التسوية المُرضية لكلا الطرفين، ويُرجّح احتمال فرض «إملاءات» من جانب واحد، حيث يسعى المنتصر لاستغلال زخم التصعيد لتحقيق مكاسب استراتيجية دائمة – وهو ما يبدو واضحاً في الخطاب الأميركي – الإسرائيلي.
على أن القرار الإيراني هو الذي سيحدّد الوجه القادم للصراع: إذا تمكّنت إسرائيل من تكرار الضربات بفاعلية، ونجحت الولايات المتحدة في احتوائها إقليميّاً، فإن إيران ستواجه ضغوطاً متزايدة، داخلية وخارجية، قد تدفعها إلى إعادة النظر في سياساتها، وربّما أيضاً تحمل إسرائيل وأميركا على رفع السقوف عالية جداً، بما يصل إلى استهداف النظام نفسه.
أمّا إذا أظهرت قدرة على المناورة والردّ بفاعلية، فقد تُعيد تعديل موازين القوى وتفتح الطريق أمام مواجهة أوسع وأطول، وربّما فرملة زخم خصومها ضدّها.
الحرب بدأت إذاً، لكنّ أحداً لا يستطيع الجزم أين ستنتهي. وفي ظل الغموض والحسابات الدقيقة، يبقى السؤال الإستراتيجي الأكبر: هل يمكن هذه الضربة أن تغيّر موازين القوى بشكل جذري؟ أم أنها مجرّد بداية لمواجهة طويلة ومعقّدة، لا يُعلم من الآن كيف ستؤثّر في إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في المنطقة؟