Beirut weather 15.41 ° C
تاريخ النشر December 26, 2024
A A A
خريطة طريق إنقاذ لبنان: من الأزمة إلى التعافي والنمو
الكاتب: محمد فحيلي - النهار

يواجه لبنان اليوم أزمة متعددة الأبعاد تهدد كيانه واستقراره الاقتصادي والاجتماعي. أما الخروج من النفق المظلم فيتطلب إرادة سياسية وشعبية قادرة على رسم خريطة طريق عملية وفعالة.

يمكن تحديد مجموعة من المحاور الأساسية، أو ما أطلق عليه “المسامير”، التي يمكن أن تشكل أساسا لهذه الخريطة.

المسمار الأول: انتخاب رئيس يعكس طموحات الشعب اللبناني

لا يمكن للبنان أن يبدأ عملية التعافي دون قيادة سياسية تمثل الشعب بكل أطيافه وتعكس تطلعات الشباب اللبناني. إن انتخاب رئيس للجمهورية ليس مجرد خطوة رمزية، بل هو نقطة انطلاق نحو استعادة الثقة بالقيادة السياسية. هذا الرئيس يجب أن يكون حاملاً رؤية إصلاحية بعيدة عن المحاصصات السياسية التي أودت بالبلاد إلى هذا الوضع.

المسمار الثاني: تشكيل حكومة فعالة
الحكومة المقبلة يجب أن تكون حكومة إنجاز، لا حكومة محاصصة. يجب أن تضم هذه الحكومة وجوهاً قادرة على اتخاذ قرارات جريئة وإدارة الملفات الملحة بفعالية. من الضروري الابتعاد عن عقلية توزيع المكاسب السياسية والتركيز على الكفاءة والشفافية.

المسمار الثالث: إقرار موازنة متوازنة
الموازنة العامة يجب أن تكون أداة للإنقاذ لا للفساد. المطلوب موازنة تضع لبنان على طريق الاستقرار المالي والاقتصادي. هذه الموازنة يجب أن تراعي إعادة هيكلة الإنفاق العام بما يخدم مصلحة المواطن ويقلل من الهدر.

المساعدة الدولية وإعادة الإعمار
من الواضح أن لبنان لا يمكنه تمويل إعادة الإعمار بمفرده. الدعم من الدول الصديقة والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ضروري. لكن هذا الدعم لن يتحقق دون استعادة الثقة الدولية من خلال تنفيذ إصلاحات جذرية.

المسمار الرابع: العودة إلى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي
الالتزام بالاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ شروطه ضرورة ملحّة للوصول إلى برنامج تمويل طويل الأمد. هذه الخطوة تتطلب شفافية ومصداقية في التعاطي مع المجتمع الدولي.

المسمار الخامس: الالتزام بخريطة طريق مجموعة العمل المالي (FATF)
إخراج لبنان عن اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي يتطلب التزاماً جاداً بتنفيذ إصلاحات مالية وقانونية. هذه الإصلاحات ضرورية لتجنب عزل لبنان مالياً وإعادة دمجه في النظام المالي العالمي.

المسمار السادس: معالجة الدين العام
إعادة هيكلة الدين العام يجب أن تكون على رأس أولويات الحكومة. من الضروري إدراج مادة في الموازنة العامة لعام 2025 لمعالجة هذا الملف بشكل جذري. لا يمكن للبنان أن يحقق التعافي دون وضع خطة شاملة لإعادة جدولة الدين وتخفيف عبء الفوائد.

المسمار السابع: إعادة الثقة بالقطاع المالي
عودة الانتظام إلى القطاع المالي أمر لا مفر منه. يجب على الحكومة اتخاذ خطوات فورية لإعادة بناء الثقة بين المصارف التجارية والمجتمع اللبناني من أفراد ومؤسسات. استخدام وسائل الدفع المتاحة من خلال النظام المصرفي يجب أن يصبح خياراً ممكناً ومرحباً به.

المسمار الثامن: معالجة أزمة الدولرة
الدولرة باتت عائقاً كبيراً أمام استقرار الاقتصاد اللبناني. المطلوب هو وضع خطة تدريجية للعودة إلى اعتماد الليرة اللبنانية في التعاملات الداخلية. هذه الخطوة تحتاج إلى سياسات اقتصادية تعيد الثقة بالعملة الوطنية. لتحقيق ذلك، يمكن العمل على:
● تعزيز استقرار سعر الصرف. يجب على المصرف المركزي اتخاذ تدابير واضحة ومبنية على أسس علمية لتحقيق استقرار نسبي في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية.
● زيادة التداول بالليرة. تشجيع المواطنين والشركات على استخدام الليرة في التعاملات اليومية من خلال تقديم حوافز مالية، مثل خفض الرسوم على المعاملات بالليرة.
● تحفيز الصادرات وتقليل الاستيراد. سياسات اقتصادية تدعم القطاعات الإنتاجية المحلية مثل الصناعة والزراعة لتقليل الاعتماد على الواردات المدفوعة بالدولار.
● إطلاق برامج توعية. حملات تثقيفية لتوضيح أهمية العودة إلى العملة الوطنية ودورها في تحقيق الاستقرار الاقتصادي.
● تفعيل دور المصارف. إعادة بناء الثقة بالمصارف اللبنانية لتشجيع الإيداعات بالليرة بدلاً من الدولار، مع تقديم فوائد تنافسية.
● التخلي التدريجي عن الدولرة في القطاع العام. دفع الرواتب والأجور في القطاع العام بالليرة اللبنانية كخطوة أولى نحو تقليل الاعتماد على الدولار.
هذه الخطوات يجب أن تتم بتنسيق وثيق بين الجهات الحكومية، المصرف المركزي، والقطاع الخاص لضمان نجاح خطة التخلص من الدولرة.

 

مسامير السياسة: نحو نظام جديد
التحديات السياسية لا تقل أهمية عن الاقتصادية. المطلوب هو تنفيذ القرار الأممي 1701 بكامل مندرجاته والعمل على إعادة إنتاج نظام سياسي جديد. هذا النظام يجب أن يتجاوز “الطائفة أولاً” و”الزعيم أولاً” ليضع الوطن والمواطن في المقدمة.

دور حكومة تصريف الأعمال
في هذه المرحلة الانتقالية، تقع على حكومة تصريف الأعمال مسؤولية تصويب الأداء وتقديم الخدمات الأساسية للمواطن. يجب أن تكون هذه الحكومة جسراً للوصول إلى حكومة متكاملة وقادرة على إصلاح هيكل الدولة. إن دورها يتخطى الإشراف الإداري ليشمل:
● تأمين الخدمات الحيوية. من المياه والكهرباء إلى الصحة والتعليم، يجب أن تُعطى الأولوية لضمان استمرار هذه الخدمات الأساسية.
● إدارة الأزمة المالية. تقليل الهدر والفساد، وضمان استقرار سعر الصرف قدر الإمكان، وإيجاد حلول مؤقتة لأزمة السيولة.
● الشفافية في القرارات. اتخاذ خطوات شفافة وواضحة لإعادة بناء الثقة بين الحكومة والشعب، وأهمها اليوم هو القيام بمسح كامل وشامل ودقيق وشفاف عن الدمار الذي تسببت به إسرائيل على لبنان حتى يكون التواصل مع الدول المانحة والصديقة واضح المعالم.
● التواصل مع المجتمع الدولي. العمل على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع الدول المانحة والمؤسسات الدولية لتأمين الدعم المالي والفني الضروري.
● تهيئة المناخ للانتخابات. ضمان شفافية ونزاهة الاستحقاقات الدستورية المقبلة، وأهمها التحضير للانتخابات البلدية، لتمكين الانتقال السلمي والسلس نحو اللامركزية الإدارية.
إن نجاح حكومة تصريف الأعمال في القيام بهذه المهام سيُمهّد الطريق لحكومة دائمة قادرة على تحقيق إصلاحات جذرية ومستدامة.

نحو التعافي الاقتصادي
بعد اقتلاع هذه “المسامير” من نعش الوطن الذي دفن فيه ولا يزال له قلب ينبض، يمكن للبنان الانتقال إلى مرحلة الإنعاش ومن ثم التعافي لتأمين جهوزيته في الانتقال إلى مرحلة النمو الاقتصادي. وتحقيق هذا النمو يتطلب:
– تعزيز الإنتاجية: الاستثمار في القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة.
– تشجيع الاستثمار: توفير بيئة تشريعية ومناخ استثماري جاذب لرؤوس الأموال.
– تحسين البنية التحتية: تطوير شبكات النقل والطاقة والاتصالات.
– الاستثمار في التعليم والصحة: بناء رأس مال بشري قادر على قيادة عجلة النمو.

إنقاذ لبنان ليس مهمة مستحيلة، لكنه يتطلب إرادة سياسية حقيقية وخطة متكاملة مبنية على هذه المسامير. وحدها الإصلاحات الجذرية، المدعومة بشراكة محلية ودولية، يمكن أن تعيد لهذا الوطن بريقه وتضعه على طريق التعافي والنمو المستدام. لا يمكن تحقيق هذا الهدف دون الالتفاف حول رؤية وطنية موحدة تتجاوز الحسابات الضيقة والطائفية. لبنان بحاجة إلى تضافر الجهود على المستويات كافة، من المواطن إلى القيادة السياسية، لتحقيق التغيير الحقيقي.

 

تتطلب اللحظة الراهنة اتخاذ قرارات جريئة ومسؤولة، وتحمّل التحديات بروح الفريق الواحد. إنها لحظة تقرير المصير: فإما أن يعود لبنان كدولة نموذجية في المنطقة، أو يستمر في التدهور. نحن أمام مفترق طرق تاريخي، والاختيار بيدنا جميعاً. فهل نصبح على وطن يُعلي قيمة الإنسان ويرسم مستقبلاً مشرقاً؟