Beirut weather 14.41 ° C
تاريخ النشر March 21, 2020
A A A
حَقائِق الدَين العام ومُقتَرَحاتُ حُلول
الكاتب: نبيل هيثم - الجمهورية

تَتَكَشَّفُ الأرقام لتُؤَكِّد الحَقيقة المُوجِعَة: إنَّ مَجموع الدَين العام يَتجاوزُ في الواقِع ٣٠٠٪ من إجمالي الناتِج المَحَلّي، وهو أعلى مُعَدَّل في العالَم لم يَسبِق له مَثيل.
هيَ الأزمَة تَتَجَلّى بأشَدِّ صوَرِها بؤساً وتؤَشِّرُ الى التَداعيات الكُبرى على حياة اللبنانيّين واستِقرارِهم الاقتِصادي والاجتِماعي.
اخيراً، بدَأت الأرقام تَخرُج الى العَلَن وأمكَنَ تَجميعُها وتَحليلُها والإرتِكازُ علَيها لمَعرِفة ما ستَؤولُ اليه أحوالُ البِلاد والعِباد.
ولأنَّ مِن حَقِّ الناس الوصول الى المَعلومات والحقائِق، ولأنَّ أيّ اجراءات أو حُلول للخُروج مِن الأزمة تستَدعي الإستِناد الى الوقائِع والأرقام الدَقيقة، أعرِضُ في ما يلي بَعضَ ما إتَّضَحَ الى الآن، مِن ارقامٍ ومؤَشِّرات.
وفقَ ما صَدَر رسميّاً عن وزارة الماليّة، بَلَغ حَجمُ الدَين العام ٩١،٦٤٢ مليار دولار لغاية ٣١ كانون الأول ٢٠١٩، يُضاف الَيه الإلتِزامات المُتَرِتبّة على الدَولَة، غَير المَدفوعَة، لِصالِح الضَمان الاجتِماعي (ما يُعادل حَوالي ٢،٢ مليار دولار )، ولِصالِح مؤَسَّسَة ضَمان الوَدائِع ولصالِح المُتَعهِّدين والمُستَشفيات، وتَعويضات إستِملاكات و … والمُقَدَّرة كُلّها بِحَوالي ٥ مليار دولار .
كما تُضاف خِدمَة الدَين العام للفَصل الأوَّل من العام ٢٠٢٠ بِما فيها الكُوبّونات (فوائِد نِصف سَنويّة) على مِحفَظة اليوروبوندز .
استِناداً الى كُلِّ ذلك، يُمكِن تَقدير حَجم الدَين العام راهِناً بِما لا يَقِلّ عن ١٠٠ مليار دولار، هوَ الدَين الحُكومي.
وعلى مُستوى موازٍ ، فإنَّ الأموال «المُتَبَخِّرة» مِن مَصرِف لبنان أو ما اصطُلِحَ على تَسميَتِه الفُجوَة في حِساباتِ المَصرِف المَركزي، تَبلُغ بحَسَب المُعطَيات المُتَوَفِّرة حوالي ٥٠ مليار دولار، قَد تَزداد مَع ظهورِ كامِل الأرقام الحقيقيّة ومَع مُساءَلة الحاكِم الذي لَمْ يَكشُفْ لغاية الآن عن كُلِّ الحِسابات. مَع العِلمِ أيضاً بأنَّ مُفوَّضي المُراقَبة تَحَفَّظوا عَن إبداءِ رأيٍ إيجابي (Disclaimer) بالمبادِئ المُحاسَبيَّة المُعتَمَدَة في مَصرِف لبنان مُنذ بِضعِ سَنوات.
تَكوَّنَتْ هذِه الفُجوَة، نتيجَةَ الهَندَساتِ الماليّة الإستِنسابيّة وعمَليّات السواب التي قامَ بها مَصرِف لبنان، وتَشجيعِه دَفعَ فوائِدَ بمُعَدَّلاتٍ مرتفِعَة على إيداعات الدولار، خُصوصاً لغَيرِ المُقيمين وعلى الودائِع الإئتِمانيّة، وتَغطيةً لِكُلفَةِ الكَهرَباء ولصافي العَجزِ في الميزان التِجاري.
في هذا السياق، كان مُلفِتاً للإنتِباه ما صَرَّحَ به حاكِم مَصرِف لبنان مُؤَخَّراً بأنَّه يُسَجِّل في دفاتِره حِساب overdraft بِقيمة ١٥،٥ مليار دولار يَعتَبِر بأنَّه دفَعَها عَن الدَولة ومؤسَّسَاتها، لَكِنْ مِن دونِ أن يَظهَر لهذا المبلغ مِقابِلٌ واضِح counterparty في حِسابات الدَين العام في وزارة الماليّة، ومِن دونَ أن يُصَرِّح بِها مَصرِف لبنان كَدَينٍ على القِطاع العام Loans to the Public sector حيثُ أنَّ رَصيد هذا البَند في دفاتِره هو صِفر.
ما تَقَدَّم يوصِلُنا الى الحَقيقة المُرَّة بالأرقام: إجمالي الدَين العام حاليّاً هو بِحُدود ١٥٠ مليار دولار بِما فيها فُجوَة مَصرِف لبنان !!! .
مِن حَقِّ اللبنانيّين أن يَعرِفوا كَيفَ وصَلَتْ الامورُ الى هُنا. مِن حَقِّهِم أن يسألوا ويُحاسِبوا، كَي لا تَتَكَرَّر خطيئَة إنتهاءِ الحَرب مِن دونِ مُصارَحة ومُصالحَة عَميقة حقيقيّة، ومِن دونِ تَحَمُّل المَسؤوليّات.
مِن حَقِّ اللبنانيّين أن يَعرِفوا كيفَ ولماذا يَحمِل البَلَد هذا العِبءَ الكبير مِن الدُيون، ومَن إستَفادَ مِن السياسات الفاشِلَة التي أوصَلَتنا الى هُنا، في حين أنَّ لبنان لَمْ يَكُن في أيلول ١٩٧٦، أي بَعدَ سَنةٍ ونِصف مِن إندلاع الأحداث في ١٣ نيسان ١٩٧٥، مَديناً بأيِّ قرش؛ ولَمْ يَكُنْ دَينُه عام ١٩٩١ يَتجاوَز ١،٨ مليار دولار مُعظَمُه بالليرة اللبنانيّة.
اليَوم، يُعاني لبنان واللبنانيّون مِن مَديونيَّةٍ عامّة كَبيرة ومِن مشاكِل مُتعَدِّدة ومُتَداخِلة تفاقَمَت مع السَنوات مِن دونِ أنْ تُبادر حُكومات ما بَعد الطائف إلى حَلِّها.
فمَجموعُ الدَين العام الحُكومي بما فيه الفوائد المُترتّبة لغاية تاريخه والتزاماتُ الدَولة غَير المَدفوعة، مَع فُجوَة مَصرِف لبنان التي تَتَعاظَم مع إنكِشاف الأرقام، يتَجاوز كما أسلَفنا ٣٠٠٪ من إجمالي الناتِج المَحَلّي، وهو ما يُشَكِّلُ سابِقة على مُستوى العالم. تَـأتَّـى هذا الحَجمُ الكبير للدَين مِن خَياراتٍ وتوَجُّهاتٍ اقتِصاديّة رَيعيّة المَنحى وسياساتٍ ماليّة – نَقدِيَّة خاطِئة مُنذُ التِسعينات، جَرى طَمسُ سَلبيّاتِها وآثارِها عَبرَ «سياسة الطَرابيش» إمعاناً في المُكابَرة وعَدَم تَحَمُّل المَسؤوليّات.
تَتَعَدَّد الأسبابُ التي أوصَلَتنا الى ما نَحنُ عليه اليَوم وتَتداخَل، لَكِن يُمكِن تلخيصُ أهمِّها بسَبعِ نِقاط:
١- تَزعزُعُ سُلَّمِ القِيَم وإنقِلابُ المفاهيم، وهو ما تُرجِم في أحَدِ وُجوهِه السَعي وراءَ الرِبح السَريع من خِلال اقتِصاد الرَيع والفوائِد وعدَم تَبنّي سياساتٍ تُعطي الاولويّة لزِيادة الإنتاج، سِلَعاً وخدَمات، وغياب أيِّ سياسة وطنيّة تُشَجِّع على المُبادرات الفَردِيّة او الجَماعيّة الخَلاّقة المَبنيّة على التَمَيُّز عِوَضَ التسطيح والاستِعراض.
٢- غيابُ استقلاليّة القَرار الوَطني طِوال سَنواتٍ خَلَت. فاللبنانيّون الذين إرتَضوا الميثاق عام ١٩٤٣ وحاوَلوا إقامَة دولةٍ استَفادتْ من ظروفٍ تاريخيّة لتكونَ «سويسرا الشَرق»، غَرِقوا في محاوِر ليكتَشفوا اليَوم أنَّ ربطَ مَصيرِهم بسوريا أو مِصر أو السعوديّة أو إيران او اميركا، كان مُدَمِّراً للاقتِصادِ اللبناني وللنَسيجِ الوَطني.
٣- العَجزُ التِجاري الناتِج عَن نموذَجٍ إقتِصاديٍّ ارتَكَزَ مُنذُ التِسعينات على تَوَجُّهاتٍ رَيعيّة وعلى الإستِهلاك بَدَلَ الإنتاج، مِمّا انعَكَسَ عَجزاً تراكُميّاً في ميزان المَدفوعات، فاقَمَتهُ أزمةُ النُزوح السوري التي كَلَّفَتْ الاقتِصاد اللبناني كَكُلّ ما لا يَقلّ عن ٢٥ الى ٣٠ مليار دولار، يُضاف اليه نَقصٌ بحوالي ٩٠٠ مليون دولار سنَويّاً في ايرادات الدَولة ناجِمٌ عن هذه الأزمة، وذَلِك وَفقاً لتقرير صُندوق النَقد الدَولي.
٤- العَجزُ المُتراكِم في حِساباتِ الدَولة التي جَرى إدارتُها لبِضعِ سنَوات دونَ موازناتٍ ودونَ ارقامٍ صَحيحة. وقَد تفاقَمَ العَجز المالي نتيجةَ خِدمَة الدَين العام وسِلسِلَة الرُّتب والرَواتِب غَير المَدروسة وكُلفَة الكَهرباء العالية التي تأخَّر إنجازُ خُطَطِها نتيجَة المُماحكات السياسيّة العَقيمة.
٥- العَجزُ في الثَروة الوطنيّة الماليّة بالعُملات الاجنبيّة، الذي يَبدو بأنَّه سيَتَجاوز الـ ٥٠ مليار دولار أي حَوالي ٤٢٪ الى ٤٣٪ مِن مُدَّخَرات اللبنانيّين بالعُملات الأجنبيّة، وقَد تَظَهَّرت هذه الفُجوَة في حِسابات مَصرِف لبنان.
٦- عَجزٌ في القِطاع المَصرِفي تمَثَّلَ نَقصَاً في السُيولة بالعُملات الأجنَبيّة وسيتَظَهَّر تِباعاً أزمةً في الملاءَة. وهوَ ما جَعَلَ اللبنانيّين يَعيشون الإذلال على أبوابِ المَصارِف للحُصول على بِضعِ مئاتٍ من الدولارات شَهريّاً مُنذُ تشرين الأوَّل المُنصَرِم.
٧- أزماتٌ اجتِماعيّة جاءَتْ نتيجةً لتَراكُمات كُلِّ الأسباب الآنِفة الذِكر، وتَمَظهَرَت بمُعَدَّلاتِ بَطالة خَطيرة تَتَراوح وفقَاً لتَقديرات ما بَين ٤٠٪ و٥٠٪ . تَرافَقَ ذلك مع إقفالِ الكَثير مِن المؤَسَّسَات وما يَعنيه مِن تَداعياتٍ على أُسلوبِ عَيش اللبنانيّين مِن تَعليمٍ وطَبابةٍ الى المأكَلِ والمَسكَنِ وما بينهما مِن اهتِماماتٍ ثقافيّة وفِكريّة وبَحثيّة.
قَد تَكونُ هَذِه ابرَز عناوينِ اسباب ازمَتنا الإقتِصاديّة، وإنْ أمكنَ تِعدادُ مِئاتٍ غَيرها. أمّا كَيفَ الخُروج مِن هذه الأزمات مَعاً، فاللائحةُ تَطول، وقَدْ أَسهَبَ الخُبَراء بِعَرضِها مؤَخَّراً.
إلّا أنَّ أُولى الحُلول تَنطَلقُ برأيي مِن حاجَتِنا الى رجالٍ احرار يَنذُرونَ أنفُسَهُم لبناءِ وطنٍ مُتَخَفِّفين من حِساباتِ الأنا والرِبح او الخِسارة، مُتَرَفِّعين عن المالِ العام والتَعاطي مَعهُ كَمِثلِ مَالِ الوَقف.
ومِن أهَمِّ الخُطُوات التي أقتَرِحُها:
١- إقرارُ كُلّ قوانين مُكافَحَة الفساد، والعَمَل على إظهار كُلّ الحقائق الماليّة والنَقديّة، وكَشف المُخالفات والتَعديّات على المال العام.
٢- العَمَلُ على خَلْقِ شَبكَة أمانٍ سياسي، والدَعوَة الى مؤتَمرِ حِوارٍ وطَني بَين القيادات السياسيّة، عَلَّنا نَصِلُ الى بَعضٍ من توافُقٍ وطَني في هذه المَرحلَة الحسّاسة.
٣- إتّخاذُ سَلَّةٍ مِن الإجراءات لِتَحفيزِ الإنتاج الوطني مِن اجلِ تخفيضِ فاتورة الإستيراد وزيادة الصادِرات خُصوصاً السِلَع ذات القيمَة المُضافَة العاليَة.
٤- إقرار ُقانون المُنافَسة الذي تَمَّ إنجازُه في وزارة الاقتِصاد والتِجارة خِلال العام ٢٠١٩ وأُرسِلَ في حينِه الى مَجلِس الوزراء؛ وهوَ يُساهِمُ بفَكفَكة الإحتِكارات التي لَمْ يَعُدْ لها مَثيل في عالَم الإقتِصاد الحُرّ.
٥- إعادةُ هَيكَلَةِ الدَين العام وشَطبُ الجُزء الأكبَر مِن حَجمِه وتَخفيضُ مُعَدَّلِه الإجمالي مِن ٣٠٠٪ حاليّاً الى اقَلّ من ٨٠٪ من الناتِج المَحَلّي، مِن خِلال سَلّة إجراءاتٍ فوريّة وأُخرى متوَسِّطة وطويلَة الأمَد.
٦- تَصفيرُ العَجز المالي في ما عدا العَجز الناجِم عَن الإنفاق الإستِثماري المُحَفِّز للنُمُوّ. في هذا الإطار، يُفتَرَض العَمَل، مِن دون أيّ إبطاء، على تَصفير ِعَجزِ الكَهرَباء.
٧- إقرارُ نِظامٍ ضَرائِبي جَديد يَرتَكِزُ على الضَريبة التَصاعُديّة على الدَخل وعلى الصَحن الضَريبي المُوَحَّد للأُسرَة، مَع الحِرص على عَدَم المَسّ بذَوي الدَخل المَحدود.
٨- إجراءُ تَخفيضٍ إضافي لمُعَدّلات الفوائِد الدائِنة والمَدينة بالليرة اللبنانيّة والدولار، بِما ينعَكِس إيجاباً، وبِشَكلٍ فَوري، على الحَرَكة الإقتِصاديّة وعلى كُلفَة الدَين العام.
٩- إعادةُ هيكَلَةِ المَصارِف ورَسمَلَتِها وتطويرُ القِطاع المَصرِفي ليواكِب الحداثَة ومُستَلزَمات بازل، وليَكونَ رافِعةً للإقتِصاد المُنتِج عِوضَ أنْ يَبقى أجيراً في خِدمةِ اقتِصاد الرَيع.
١٠- تَطويرُ أنظِمَة الحِماية الاجتِماعيّة والصِحيّة لتُصبِحَ اكثَر عدالةً ولتَشمُل تَغطيَتُها كُلّ فئات المُجتَمَع اللبناني.
هَذهِ كُلُّها عَناوين اساسيّة يَندَرجُ تَحتَها عَشَراتُ العَناوين التَفصيليّة لِحُلولٍ ، مَهما حاوَلنا التَخفيفَ مِن وطأَتِها، ستَكون مُوجِعَة. فكَيفَ يَكونُ اجمالي دَينُنا العام ١٥٠ مليار دولار ونَتَوقَّع حُلولاً سَهلَة؟
لَكِنَّ المُهِم، عِندَ تَوزيع أعباء الدُيون والآم الخسائِر، أنْ يَتَحَمَّلَ مُسَبِّبوها ومَنْ استَفادوا مِنها العِبءَ الأكبَر، وأنْ تَتِمّ حِمايةُ الناس ذَوي الدَخلِ المَحدود الذين خَسِروا الى الآن حَوالي ٤٠٪ مِن مَداخيلِهم مَع تَراجُعِ سِعر العُملَة الوَطنيّة امامَ الدولار.
وكُلُّ كَلامٍ وسُلوكٍ مُغايرٍ جَريمةٌ مُتَماديةٌ على أبسطِ حُقوقِ الناس بحَياةٍ كَريمَة، وإمعانٌ في سَرِقَتِهم بالمِعنى الحَرفيّ لِلكَلِمة، كما بإستِعارَتِها المَجازيّة: سَرِقَةُ غَدِهِم وحُلمِهِم بوَطنٍ مُشتَهى قابِلٍ لِلحَياة.