Beirut weather 15.21 ° C
تاريخ النشر July 28, 2018
A A A
حمص: كسب الأرزاق… بعد قطع الأعناق
الكاتب: مرح ماشي - الاخبار

رغم القلق على المجتمع الحمصي الذي عانى الحرب العنيفة بين أحيائه وقراه، يبدو التجاوب الاجتماعي بين الأحياء أسرع منه في الريف. العامل الاقتصادي يحكم الأهالي في تعاطيهم المباشر في ما بينهم، بما يعزز ثقافة المصالحة بين الساعين لكسب أرزاقهم بعد طول موت وبطالة.

يسعى الحمصيون إلى استعادة أرزاقهم وتحقيق دخل يكفّ عنهم ذلّ الحاجة، بعد سنوات من الحرب وانقطاع سبل الحياة والرزق. وما بين من يحاول ترميم إصابة أو فقد بعمل شريف، يشغله عن أيام الموت الماضية، ومن يرمم محله التجاري أو منزله بعد خسارات بشرية ومادية، يتساوى أهل المدينة في السعي إلى تضميد الجراح. وإن كان العمل هو القيمة الحقيقية للإنسان، فإن بعض الخارجين من قسوة الإصابة أو ذلّ البطالة يلقون من الدولة استجابة لتأمين وظيفة حكومية ما، ومن بعض الجمعيات اهتماماً بتعليم مهنة أو عمل متواضع، فيتلقفونها بتذمّر حيناً، وبرضى أحياناً أُخرى. يجلس محمد دلة، على كرسيه بسلام، داخل مشغل الخياطة التابع لإحدى الجمعيات في حيّ الزهراء. حركات يديه تسعفه في تخطي إصابته بطلق ناري في العمود الفقري، أدى إلى تضرر العصب الوركي لديه، إضافة إلى المستقيم. وجد الرجل أحد أسباب مقاومته لعجز إصابته، في تعلم مهنة الخياطة ضمن برنامج جمعية «كريم». يحاول زيادة مهارته لإخراج قطعة معقولة. لا تعوقه الإصابة عن استكمال عمله في المشغل، طالما تحاول زوجته مساندته لإنجاز مهماته اليومية بنجاح. اللافت أنه تعرّف إلى زوجته من خلال المشغل ذاته، حيث كانت من مرتادي المكان بوصفها أرملة شهيد أيضاً. تواصل المرأة رسالتها هذه المرة، للوقوف إلى جانب زوج جريح، ومنحه أسباب الاستمرار. على مقربة منهما تجلس امرأة خمسينية يعرّف عنها الآخرون بأنها أم شهيد، لكن لا تصدر عنها أدنى التفاتة، بل تبدو غارقة في عملها، غير مهتمة بالزوار أو التصوير أو بتوطيد العلاقات الاجتماعية. ملامحها الجادة تصرف الآخرين عن مقاطعة عملها، فيكتفي المرء بالتفكير للحظة، بإيمانها الذي يدفعها نحو مواجهة محنتها والنهوض إلى العمل كل يوم، لتمضي بقية حياتها بشرف. أشخاص من أحياء عدة يجتمعون في المشغل، معظمهم لديهم ظروف متعلقة بالحرب ونكباتها. يجمعهم الرزق والكفاح في سبيل لقمة العيش، ضد كل ما فرّقهم يوماً.

السوق المسقوف وتحدّيات العودة
ليس ببعيد كثيراً، حيث أسواق حمص القديمة تعيش المرحلة الثالثة من ترميم السوق المسقوف. سيدتان مسنّتان تعكّزان إحداهما على الأخرى لعبور منطقة إقامتهما في حيّ الحميدية إلى السوق المغطى، فيما تستوقفهما واجهات المحال التجارية التي تفتتح حديثاً. تبدوان مستمتعتين باستكشاف المحال الجديدة والتجار «الشجعان» الذين عادوا إلى أرزاقهم وملأوا الواجهات بالبضائع. تتفقد السيدتان البضائع، فترضيان عن بعض الأسعار وتعترضان على بعضها، قبل أن تتبادلا الأحاديث القصيرة مع أحد التجار، وتغرقا في ضحكات ودودة. عن بعد، يمكن ملاحظة كيف تستعيد الحياة الاجتماعية في حمص عافيتها، من خلال المحور الاقتصادي. وإن كانت القطيعة الاقتصادية أحد مخاوف المجتمع الحمصي، فإنها لا تبدو جدّية أبداً، في أسواق المدينة الأساسية، بل بدت إعادة فتح بعض المحال المعروفة مدعاة احتفاء أهالي أحياء الزهراء والأرمن ووادي الدهب، بوصفها من معالم حمص الأساسية. وعلى رغم انتقال المخاوف أخيراً إلى قرى الريف الشمالي العائدة إلى سيطرة الدولة، ومحاولات استعادة مظاهر الحياة الاجتماعية مع محيطها الريفي الموالي، يظهر الاقتصاد حلّاً أساسياً، وربما وحيداً.

غير أن إمكان تطبيق المصالحة الفعلية أصعب في قرى منفصل بعضها عن بعض، أهم ما يربطها شبكات الطرق، بينما تكتفي كل منها بإنتاجها الذاتي من المنتجات الزراعية، ويرفد تجار المدينة أسواقها بالبضائع، إضافة إلى مساعدة الدولة في ذلك. وهذا التفصيل يقود إلى أن استعادة الروابط الاجتماعية قد تكون أسهل في أحياء المدينة، التي تربطها ببعضها علاقات اقتصادية ملحّة. ليظهر تفصيل جديد أثناء الحديث مع التجار عن أي تحسن ممكن في حجم المبيعات أخيراً، فإجابات التجار تفيد بأن أبناء الريف الشمالي قد دخلوا أسواق حمص مجدداً، بعد المصالحة الأخيرة، وهذا أثّر إيجاباً على حركة السوق. وبالتعاون بين محافظة حمص وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أصبح 40 محلاً تجارياً جاهزاً للافتتاح، وفق معايير مديرية الآثار والمتاحف وإشرافها، بما يكفل الأهمية التاريخية لكل حجر في السوق. على مساحة 42 ألف متر مربع يتناثر 825 محلاً، في أنحاء السوق، 80 منها فقط تمّ تأهيله خلال المرحلة الحالية. بينما جرى تأهيل 4 أسواق خارجياً فقط، وهي أسواق الخياطين والقيصرية والصاغة والمعرض. إنارة السوق تعتمد على الطاقة الشمسية. فيما تتواصل أعمال الترميم في الجامع النوري الكبير، الذي يعود بناؤه إلى القرن السادس الهجري. القواعد المعدنية المرافقة لجدران الجامع وأبوابه لم تمنع المصلين من التوافد إليه للصلاة في القاعات المتوافرة. اللافت أن التخريب الذي تعرض له الجامع كشف بقايا أعمدة وتيجان عائدة إلى العهد البيزنطي، أسوة بزوايا عديدة من أركان الأسواق القديمة التي تعرضت للتخريب، فتكشفت عن آثار قديمة لم تكن في الحسبان.