Beirut weather 19.61 ° C
تاريخ النشر September 4, 2025
A A A
حسن الرفاعي.. رمز النزاهة الدستورية وفارس التحدّيات السياسية
الكاتب: زياد سامي عيتاني

كتب زياد سامي عيتاني في “اللواء”

فَقدَ لبنان برحيل الدكتور حسن الرفاعي، ليس مجرد نائب أو قانوني بارز، بل مدرسة دستورية متكاملة، وحارساً أميناً للمؤسسات والدستور. فقد كان الرفاعي رمزاً للنزاهة القانونية والالتزام الوطني، وشخصية استثنائية صارت مرجعاً لكل من أراد فهم آليات الدولة اللبنانية المعقّدة.
عرف الرفاعي بكونه مرجعاً دستورياً لا يُستهان به، استُشِير في المسائل الكبرى المرتبطة بالدستور والمؤسسات حتى سنواته الأخيرة. لجأ إليه السياسيون والإعلاميون للتأكّد من سلامة الصياغة الدستورية، أو لفهم الثغرات القانونية التي تتسم بها التعقيدات اللبنانية. وكان صوته يرفع النقاش من مستوى الانقسام السياسي إلى مستوى التوازن القانوني، مؤكداً على أن الدولة لا تُبنى إلّا على أسس دستورية صلبة، وأن القانون هو صمام الأمان الذي يحمي الوطن من الفوضى والانهيار.

برحيله، لا يفقد لبنان رجلاً قانونياً بارزاً فحسب، بل يفتقد مرجعاً وطنياً مؤسسياً. ففي وقت يحتاج فيه الوطن إلى أصوات تذكر الدستور كمرجعية عليا، يغيب الرفاعي ليترك فراغاً يصعب ملؤه.
دخل الرفاعي المجلس النيابي عبر انتخابات عام 1968، وامتدت مسيرته النيابية المتتابعة حتى عام 1992. وخلال هذه السنوات، لم يتعامل مع النيابة كوسيلة للسلطة، بل كمنصة للدفاع عن قيم الدولة وحماية العقد الاجتماعي؛ فكان صوته دائماً يعلو دفاعاً عن استقلال المؤسسات والالتزام بالدستور، بعيداً عن الانزلاقات الطائفية والمصالح الضيقة.
لُقّب الرفاعي بلقب «حارس الجمهورية»، وهو لقب يعكس دوره في تذكير الجميع بأن الجمهورية لا تُحرس بالنوايا فقط، بل بالقانون والنص الدستوري الصارم. لعب الرفاعي دوراً أساسياً في صياغة ومناقشة العديد من القوانين المفصلية التي مرَّ بها لبنان عبر عقود، من قوانين الانتخابات إلى الإصلاحات الدستورية، مروراً بمناقشة القوانين التي تنظّم علاقة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ببعضها. لقد كانت مساهماته في النقاش العام، ومداخلاته القانونية، وأبحاثه في الفقه الدستوري، كلها علامات فارقة شكّلت مرجعية للأجيال المقبلة من القانونيين والسياسيين.

كان الرفاعي حوارياً قبل أن يكون قانونياً؛ يستمع قبل الحديث، ويحلل قبل أن يصدر الحكم. جمع بين صرامة المبدأ ولين التعامل، مما جعله محبوباً ومحترماً في أوساط زملائه، سواء في المجلس النيابي أو في الوسط القانوني والإعلامي. لم يكتفِ بالدفاع عن النصوص الدستورية، بل سعى لتوضيحها وإيصال فهمها الصحيح لكل من يتعامل معها، مؤمناً بأن قوة الدولة تكمن في احترام القوانين وعدم تجاوزها، وليس في التفاسير المرنة أو المواقف السياسية المتقلبة.
خلال مسيرته، واجه الرفاعي تحدّيات سياسية وأزمات دستورية عديدة. كان صوته دائماً حاسماً عندما تعلقت الأمور بمصالح الدولة ومؤسساتها، سواء في أوقات الأزمات السياسية أو في المفاوضات المعقّدة بين مختلف القوى اللبنانية. وفي كل مرة، كان يذكر الجميع بأن الحفاظ على الدولة ومؤسساتها يتطلب الالتزام بالنصوص الدستورية أولاً، والابتعاد عن الانزلاقات الطائفية أو الحسابات الضيقة.
من أبرز مواقفه، مشاركته الفاعلة في مناقشة قوانين الانتخابات التي كانت دائماً محور جدل بين القوى السياسية المختلفة. فقد حرص على أن تضمن هذه القوانين حقوق جميع اللبنانيين بالتساوي، وأن تعكس الشراكة الوطنية الحقيقية، لا مجرد توزيع السلطة وفقاً للمصالح الطائفية. كما كان له دور بارز في تطوير الأطر القانونية التي تحمي استقلال القضاء، وتضمن أن تبقى الدولة ملتزمة بقواعد القانون، مهما اشتدّت الضغوط الداخلية والخارجية.
لقد ترك الرفاعي إرثاً كبيراً لا يقتصر على الممارسة السياسية أو القانونية، بل يمتد إلى الوعي الوطني والفكر الدستوري. كتباته ومداخلاته القانونية ستظل مرجعاً للأجيال المقبلة من النواب والقانونيين. فقد علّمنا أن حماية الدولة تبدأ بحماية الدستور، وأن احترام النصوص القانونية هو الأساس لبناء دولة مستقرة وعادلة.
يودّع لبنان «حارس الجمهورية» في وقت هو بأمسّ الحاجة إلى الذين يرون في القانون درعاً يحمي الولاء الوطني، لا مجرد أداة تفاوضية. رحم الله النائب والمرجع الدستوري حسن الرفاعي، وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان. لعلّ سيرته تذكّرنا جميعاً بأن الأوطان تُبنى برجال من طراز نادر، يجمعون بين المبدأ والعقل، والنص والوجدان.
يرحل الأشخاص، لكن إرثهم يبقى. ستظل كتابات الرفاعي ومداخلاته ومواقفه، كما أسلوبه في العمل السياسي والحقوقي، علامة مضيئة لكل من يسعى لفهم القانون والدستور اللبناني. لقد علمنا أن حماية الدولة تبدأ بحماية الدستور، وأن قوة الدولة تبنى على احترام النص وعدم تجاوزه، وأن الجمهورية تُحرس بصوت القانون وليس بالنوايا فقط.
حسن الرفاعي سيبقى في الذاكرة الوطنية كرمز للحكمة، والنزاهة، والإخلاص، ولأحد «الحراس الأمناء على النصوص» الذين يجمعون بين العقل والمبدأ، وبين النص والوجدان، ليكونوا مثالاً لكل من سيأتي بعده من النواب والقانونيين.