Beirut weather 13.41 ° C
تاريخ النشر April 3, 2024
A A A
حرب الطوفان: خلاصات فكرية واستراتيجية
الكاتب: ناصر قنديل - البناء

يظنّ الكثيرون أن الحروب تُحسَم في الميدان مثلما تُخاض لحظاتها الأشدّ حسماً ودراميّة ودمويّة في الميدان، لكن الحروب تُحسم في العقول. وكلما عظُم شأنُها وزادت أهمّيتها، تشعّبت ساحاتها وتجذّرت قواها، صار حسم الحرب لا يمكن أن يتمّ إلا في العقول، وصارت وظيفة الميدان إيصال الإشارات العصبيّة الكهربائيّة للإبلاغ عن النصر أو الهزيمة.

عندما قال أبرز المفكّرين في رسم مفاهيم الحرب كارل فون كلاوزفيتز، أن الحرب استمرار للسياسة بأدوات أخرى، لم يكن يقصد فقط أن الموازين الجديدة للقوة التي تنتجها الحرب سوف تفرض حكماً بصماتها في السياسة بعد الحرب، أو أن موازين القوة المتغيرة لم تعد قادرة على التساكن مع معادلات سياسية قائمة ولذلك تقع الحرب، بل أيضاً والأهم أن الحرب في سياقاتها وتسارع إيقاعها مدرسة تتعلّم خلالها الشعوب ويتعلم منها القادة، وتتغير خلالها أنماط تفكير، وتسقط مناهج فلسفيّة وتنهض أخرى، وقيمة أيّ حرب تاريخياً تتحدد في مدى قدرتها على إنتاج مزيد من المعارف وترسيخ نماذج جديدة من الأفكار، وترجيح كفة حكايات ورؤى ما كان لها أن تلقى هذا الاهتمام وتلك المكانة لولا ما قالته عنها الحرب.

 

حرب الطوفان تعيد صياغة المفاهيم المعرفيّة

خلال ستة شهور وأكثر يعيش العالم على إيقاع ما يجري في فلسطين والمنطقة، وليس أدلّ على هذا من تعداد إحصائيّ للتظاهرات التي أخرجتها حرب الطوفان في مدن العالم مقارنة بأي أحداث أخرى محلية أو خارجية في هذه المدن والعواصم. وكذلك مقارنة إحصائيّة بين عدد التصريحات والمواقف التي صدرت عن القادة والسياسيين عبر العالم، حول فلسطين وحربها، وتلك التي صدرت عنهم حول أي قضية أخرى داخلية أو خارجية. ثم إجراء دراسة بيانيّة حول اتجاه هذه المواقف والمتغيرات التي لحقت بها، خلال شهور الحرب، والخط الذي ترسمه.

لجهة مواقف هذه الدول وقادتها وموقعها من طرفي الصراع، فلسطين وكيان الاحتلال، ودرجة الحرارة التي تنبض بها المواقف، وتغيّر درجة الثقة بقدرة وثبات وقوة كل من الطرفين، وبالتوازي مقارنة إحصائية بين اتجاهات الري العام في العالم، حول فلسطين وحول عناوين أظهرتها حرب الطوفان مثل اليمن، ليس فقط من زاوية المشاعر والأفكار، وتغيير الاتجاه في التقييم والموقف، بل الأهم في السعي للتعلّم والتعرّف، فكم هو عدد الذين فتح الطوفان عيونَهم على السعي للتعرّف على تاريخ فلسطين، وتاريخ اسمها، والتدقيق في الرواية الصهيونيّة، والبحث عن تاريخ اليمن ومعنى أنه لم يخضع لغزو أو استعمار ولماذا، ومن أين جاءته هذه القوة على التحدّي، وما هو دور الإسلام في تثبيت الطمأنية في نفوس أهل غزة، وكلمة الحمدالله رغم كل المصاب، ودور الإسلام الذي زرع الشجاعة وروح التحدّي والتدبّر والمهارة عند اليمنيين، ومن أين يأتيهم اليقين بالنصر، وكيف سقطت أكذوبة الصراع المذهبي برؤية حماس عنواناً لنصرة تصل حد الوجود يقدّمها حزب الله وأنصار الله، فدبّ النهم في السعي لمعرفة هذا الإسلام، والبحث عن مصادر للمعرفة لا تشبه تلك التي تكونت حول تنظيم القاعدة وتنظيم داعش والوهابيّة والأخوانيّة.

يمكن القول بضمير مرتاح إن المعرفة الإنسانيّة تعيد صياغة مفهوم الحق ومفهوم القوة من بوابة الطوفان، ومفاهيم الحق والقوة ثنائيّة السياسات والحروب. ومن بوابة الطوفان تعيد شعوب العالم اكتشاف ساستها وسياساتهم، وإعلامها وإعلاميها، وثقافتها ومثقفيها، وأن مختبراً عالمياً يتم من خلاله إعادة فك وتركيب المفاهيم قد ولد من رحم الطوفان.

تحدث هذه الثورة الثقافية العالميّة التي يمكن تشبيهها بما حدث مع الثورة الفرنسية قبل قرابة ثلاثة قرون، لجهة إعادة النظر الشاملة بمفاهيم حاكمة كانت أقرب للمسلّمات، وإعادة صياغة مقاربات جديدة لقضايا قديمة كانت منسيّة، وتحوّل هذه المقاربات إلى ما يشبه البوصلة في توجيه المواقف والمعارف. وفلسطين اليوم في الوعي الجمعي العالمي في هذه المكانة، والرأي العام العربيّ والإسلاميّ جزء من هذا التحوّل، ولو بسرعة مختلفة واستجابة متفاوتة، وخير دليل ومثال هو كيف أعاد العرب اكتشاف مظلومية اليمن، وأحكامهم المسيئة بحقه ونظرتهم المشوّهة عن الحرب التي شنّت عليه، وإعادة تعريفهم لعلاقته بالعروبة بقدر من الإنصاف، وكل ذلك تمّ من بوابة المفتاح المعرفيّ الجديد الذي قدّمه الطوفان.

يحدث كل ذلك في مرحلة من عدم اليقين تعيشها البشريّة، وقد سقطت النماذج الفكريّة والفلسفيّة التي كانت سائدة لقرون ما بعد عصر النهضة، حيث تراجعت الفلسفة الماركسيّة مع تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار النظام الاشتراكي في دول حلف وارسو لصالح ثورات أخذته إلى الليبرالية، التي بدورها سقطت بتحول مشروع سيادتها الأحادية إلى مشروع هيمنة قوميّة ودينيّة وثقافيّة لمحور انكلوسكسوني صهيوني يريد إخضاع الأمم والثقافات واللغات والتقاليد، لمعايير اصطدمت بموروث عميق متجذّر، وتحت شعار العولمة أراد تحويل العالم إلى حديقة استعمارية خلفية لأمم وكيانات بعينها، واتخاذ الجنس البشريّ رهائن وعبيداً لحساب هذه الأحادية. وجاء فشل النموذج الاقتصادي لليبرالية التي حملت مشروع إفقار الفقراء وإثراء الأثرياء على رأس جدول أعمالها الفعلي، سواء عبر الإفلاسات المبرمجة، أو الشروط القاسية للتمويل وربطها بالتغيير في الثقافة والهوية، أو بتحول بلاد المركز التي استند إليها هذا المشروع إلى بيئات الانقسام والتشظي من الداخل، وصولاً إلى خطر الحرب الأهلية على أساس اللون والعرق، فانتحر مشروع العولمة الذي تقدّم تحت عنوان استبدال أشجار الزيتون التي ترمز إلى الهويات بسيارات لكزس التي ترمز إلى الرفاه، وجاء الطوفان ليقدّم فرصة لمقاربة الشعوب لحالة عدم اليقين، بالعودة إلى فلسفة الحق والقيم الإنسانية، وإعادة فحص كل شيء على أساسها، وتقديم عقيدة جديدة إنسانية صافية تلاقي جوهر رسالات السماء وتقوم على احترامها، وتدعو للتلاقي على مائدة قيمها، لكنها تحاكم بقسوة مزاعم المنتجات الثقافية البائدة، وتعيد فحص إنسانيتها وجدارتها بحمل اسم الثقافة، ما دامت تبرر سفك دماء الأطفال والنساء وحرب الإبادة والعنصرية، وتجد الأعذار للتلكؤ والتخاذل، وتجاهر بنظام المصلحة الذي ينكشف بسرعة أنه ليس نظام مصلحة وطنية لدولة، بل نظام مصلحة طغمة فاسدة تديرها لوبيات التعصب والكراهية وشركات الأسلحة وإعلام الخداع والتلاعب بالحقائق إلى حد التزوير.

 

حقائق ثقافية واستراتيجية جديدة

من الحقائق الجديدة، أن النصر والهزيمة في الحروب لا يرسمهما ميزان قوى كلاسيكي يتصل بالعديد والعتاد والمال والسلاح، بل إن العامل الحاسم في النصر والهزيمة يعود للروح التي تقاتل، والقدرة على تحمّل بذل الدماء، وأن هذين لا يمنحهما إلا حق بائن، ولا يملكهما إلا مؤمنون صادقون مخلصون، وهكذا وجدت أميركا ووجدت «إسرائيل»، أن طغيان فائض القوة المالي والناري لا يصنعان نصراً، ولا يجنّبان هزيمة.

قال الطوفان إن ذكاء التوقيت نصف الحرب، وإن المفاجأة نصف التوقيت، لكن النصف الثاني للتوقيت هو التقاط لحظة التراجع الاستراتيجي في جبهة الأعداء، لأن أميركا شاخت، ومثخنة الجراحات في حروبها الخاسرة، وتشهد تراجعاً مضطرداً على كل منصات التنافس الدولي، العسكري والاقتصادي والاستراتيجي، وان «إسرائيل» في أسوأ أيامها، في قلب مأزق وجوديّ، وجيش تلقى العديد من الهزائم في لبنان وغزة، ولم ينجح في رد الاعتبار لقوة ردعه ولا مرّة، ومن ذكاء التوقيت قيام الطوفان في ظلال حرب أوكرانيا، واقتراب لحظة فشل حلف الناتو فيها، بعدما نفدت منه الذخائر، التي سوف يظهر كم تحتاج «إسرائيل» إليها في مواجهة ما بعد الطوفان، لكنه التوقيت.

من نتائج الطوفان أيضاً أنه قال لنا إن الفعل السحريّ في الحرب الذي يغير قواعد اللعبة هو في الابتكار من خارج العلبة. هكذا كان الطوفان وكانت معركة البحر الأحمر، جديدين من خارج التوقعات، فكان الإبهار عاملاً في صناعة الانتصار. وهذا النوع من ألعاب الفروسيّة يحتاج إلى قدرٍ عالٍ من الشجاعة إلى حد المغامرة، لكن المغامرة المحسوبة، وها هي غزة رغم كل ضراوة القتال صامدة بشعب يرفض الاستسلام والنزوح، ومقاومة قادرة على مواصلة القتال طويلاً رغم الجروح، بينما اليمن يواصل توسيع دوائر التحدّي، ويثبت أنه قادر على البقاء على الوفاء بالتزامه الأصلي بإنهاك واستنزاف الأميركي والبريطاني والإسرائيلي حتى يتيقنوا من أن السبيل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة هو بوقف العدوان على غزة.

من نتائج الطوفان أن المشهد الاستراتيجي الدولي يُكتب في البحار التي لم تهتز السيطرة الأميركية عليها منذ الحرب العالمية الثانية. وها هو اليمن وحده يتولى زعزعة هذه الهيمنة وتحديها في البحر الأحمر والمحيط الهندي وصولاً إلى رأس الرجاء الصالح، فيما تستعدّ المقاومة العراقية لتحمل مسؤوليّة موازية في البحر الأبيض المتوسط، ما يعني انقطاع خطوط الاتصال والسيطرة السلسة للغرب بين أوروبا والشرق من جهة، وبين أميركا والشرق وأوروبا من جهة موازية، ولهذا الانقطاع أبعاد دولية كبيرة وخطيرة على مكانة أميركا ومنازلتها مع روسيا والصين، خصوصاً في ظلال حرب أوكرانيا والصراع حول تايوان، وقوة ما بدأه اليمن ويمضي به قدماً تستمد مشروعيتها من قوة قضية المظلومية في غزة، حيث تنتقل معادلة الحق البائن في مقابل الإجرام والتوحش والباطل البائن، التي قامت بين غزة و«إسرائيل»، إلى معادلة اليمن وأميركا، ينتصر كل منهما لمعسكر، اليمن ينصر الحق كله، وأميركا تنصر الشر كله.

من حقائق العالم الجديد مع الطوفان الإعلام وكيف تربح معارك الرأي العام، وقد تمكّن شباب وصبايا فلسطين اليافعون وعبر أدوات متواضعة هي هواتفهم الشخصيّة إلحاق الهزيمة بآلات الغرب الإعلاميّة العملاقة التي كرّست سطوتها، ومعها رؤساء الدول والحكومات لترويج الرواية الصهيونية وكسب حرب العقول والقلوب، لكن معركة الرواية التي خاضتها غزة وانتصرت فيها، علّمتنا أن زمناً جديداً يبدأ، زمناً يمكن للمقاومة الإعلامية الشعبية أن تنتصر على الجيوش الإعلامية العملاقة، تماماً كما ثبت أنه يمكن للمقاومة العسكرية الشعبية أن تنتصر على الجيوش العسكرية العملاقة. والمعادلة هي أن الحق والحقيقة يتكاملان ولا يتقابلان، وأن من يملك الحق والحقيقة بات بإمكانه أن يربح الحرب الإعلامية في زمن سقوط احتكار الإعلام وثورة الاتصالات وانتشار وسائل التواصل التي أريد منها، إنتاج الفرد المستهلك، مثال إنسان القرن الحادي والعشرين فتحوّلت بأيدي الشعوب الحرة إلى أدوات قتال تربح الحرب.

من ثمار الطوفان إعادة تعريف النصاب الضروريّ للفوز بعيداً عن شعوذات الديمقراطية السائدة وهرطقة الإجماع، بعدما طغت لفترة طويلة نظرية تقول بأن الفوز في حرب بحجم المواجهة مع كيان الاحتلال، واستطراداً مع الغرب وعلى رأسه أميركا، تحتاج ما يفيض عن إجماع العرب والمسلمين موحّدين، وبالحد الأدنى يحتاج إلى أغلبيتهم، لتظهر لنا حرب الطوفان في شهرها السادس أن النصاب الضروريّ للفوز، والكافي لإطلاق ديناميكيّات الإمساك بزمامها ليس كذلك، فقد خرجت أقليّة ضئيلة في الأمة لتصنع عبر الطوفان ما أطلق حروباً تخوضها أقليّات مماثلة، توافرت فيها شروط تتصل باليقين والبنية الثقافيّة والعقائديّة ودرجة التنظيم والمثابرة وبناء الاقتدار، والاستعداد المديد والهادئ، واستثمار ميزات الجغرافيا والديمغرافيا، ولكن بالتأكيد ليس لكونهم أغلبيات في بلدانهم بالضرورة، ولا بلدانهم هي بلدان الأغلبيات العربيّة بالضرورة.

من ثمار وحقائق الطوفان أن الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة، هي حرب القوى الحيّة في الأمة، في حدث يشغل العالم نصف عام ويزيد، طبيعيّ أن نسأل أين هم العرب الأغنياء والعرب الأقوياء والعرب الفاعلون، ولماذا هم بلا فاعلية؟ فقد أسقطت حرب الطوفان ما كان يبدو أنه مسلمات وثوابت في النظر للوضع العربي، وها هي أخطر أفعال السياسة التي تمثلها الحرب، تستمرّ في شهرها السادس، وتخوضها أقليّات شعبية مقاومة من العرب باسم جميع العرب، بدلاً من الحكومات والجيوش في الدول ذات الأغلبيات، كما كانت الحال في الحروب الثلاثة التي سبقتها أعوام 48 و67 و73، وتحقق تفوقاً فشلت في تحقيقه الحكومات والجيوش في بلدان الأغلبيّات، فتظهر ثلاثيّة غزة وجنوب لبنان واليمن، قادرة على رسم مستقبل عربي جديد، وخلق معادلات قوة جديدة، بعد عقود من الأسئلة المرّة حول شروط لنهضة الأمة، كان الكثير من المفكّرين يربطها، بدول الأغلبيّات والحكومات والجيوش، بحيث تصح مقولة «أنا والحق أغلبيّة».

من دروس الطوفان الحربية رسم مشهد حروب القرن الحادي والعشرين، حيث ظهرت الطائرات المسيّرة والصواريخ ومشاة البر، ثلاثيّة مهيمنة على حروب القرن الجديد، تحتلّ مكان الدبابة والطائرة والمدفع، التي بقيت أدوات فعالة في القتل، لكنها فشلت كأدوات للقتال. وتوزّعت الأسلحة الجديدة للقرن الجديد في إظهار فاعليتها على جبهات غزة ولبنان واليمن والعراق، حسب الخصوصيّة والحاجة، فظهر قتال مشاة البر بأبهى صوره في بطولات غزة، ونالت جبهة لبنان نصيباً وافراً منها، وظهرت الطائرات المسيّرة والصواريخ في جبهات اليمن ولبنان والعراق، وبالجمع مع خلاصات حرب أوكرانيا، التي غابت عنها حروب المدرعات والمعارك الجويّة بين أسراب الطائرات الحربيّة، وهيمنة الطائرات المسيّرة والصواريخ ومشاة البر على المشهد الحربي، يكتب الطوفان معادلة حروب القرن الحادي والعشرين.

من ثمرات الطوفان كتابة الفصل الحاسم من كتاب أفول الأمم الذي صاغ معادلاته إبن خلدون في مقدمته لفهم التاريخ، حيث تبلغ الممالك مرتبة القمة وتبدأ أمراض الشيخوخة تصيبها، ويحين زمن الأفول، فتتحوّل الجيوش إلى تكدّس بلا جدوى، وإنفاق مرهق للخزينة، وتصبح عائدات السيطرة على الأمصار البعيدة أعلى كلفة من عائداتها، وتصبح مغادرتها أجدى، وتتقلّص مساحة الملك، وتتسع المنافسات، وتتراجع أحوال الخدمات وترتفع النقمة، ويشتدّ التمييز بين الأعراق، وتصبح المهابة أمام الأمم الصاعدة موضع امتحان، وتكثر حروب ردّ الاعتبار. وهذه علامات وغيرها يسهل أن نشاهدها في حال السيطرة الأميركية على العالم، لكن ما أضافه الطوفان إلى هذه المعادلات ليس بسيطاً، فقد أظهر لنا كيف أن العلامات الفارقة للمرحلة الأخيرة للصعود تحوّلت إلى آلات السقوط، حيث تزامن الصعود الأخير مع نهاية الحرب الباردة، مع صعود ثلاث ظواهر وازنة، أولاً ثقافة العولمة التي تمجّد الفرد والرفاه وتعلن سقوط الهويات الجامعة والقضايا والعقائد، وثانياً الخصخصة باعتبار الدولة رجل أعمال فاشلاً، وامتدت الخصخصة إلى الجيوش وخوض الحروب، وصارت الشركات هي عماد الحرب، وثالثاً ثورة المعلوماتية والاتصالات، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي كوسائل لصيقة بالبشر للترفيه والتسلية، لكن مهمتها مراقبتهم والتعرف على عاداتهم وأذواقهم والتحكم بطلباتهم الاستهلاكية، من جهة، وإعادة صياغة ثقافتهم ضمن نمط النموذج الاستهلاكي المفترض لإنسان القرن. وخلال الطوفان تعرفنا كيف انتجت ثقافة العولمة جيوشاً بلا روح تعجز عن مقاتلة أهل العقائد، وكيف صارت الدول العظمى بلا ذخائر، لأن معيار الربح يحكم الشركات، فأسقطت حاجات الأمن القومي عن حساباتها لصالح أولوية الربحية، وكيف أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت المنصات التي خاضت عبرها الشعوب المقاومة حرب الرواية وربحتها.

هذا الزلزال الذي لا زالت تردداته تتواصل، سوف يُكتب الكثير عنه ويعلّم الكثير، لكن أهم دروسه كان عن علم القيادة والتنظيم، حيث قال الطوفان، وهو أول حروب محور المقاومة إن للنصر شروطاً موضوعية كثيرة يمكن مراقبتها والتعرف على درجة نضجها، لكن له شروط ذاتية يستحيل توفرها غب الطلب، فهي بناء صلب متماسك وعقيدة يقينية، وروح متوثبة للإنجاز، وقلق على هوية وإيمان بقضية واستعداد للتضحية، ومثابرة وإتقان، وأخلاق وحسن تعلُّم وتواضع، وعند تبلورها تنضح بما عندها نوراً وناراً، وتملك أدوات فهم الواقع وهي مَن سوف يقرأ بعين ثاقبة الظروف الموضوعيّة، وتسهم بإنضاجها. وهذه هي تجربة محور المقاومة، بقواه الرئيسية المكوّنة، خصوصاً في فلسطين ولبنان واليمن، وقد أتقنت كيف تقود مسار المناطق الصعبة وفق قانون الاستقطاب التفاعلي، وكيف تقوم بالانتقال السلس بين معادلتي القيمة المضافة وفائض القوة.
*نص المشاركة في مؤتمر فلسطين – صنعاء اليمن – 1-4-2024