Beirut weather 14.1 ° C
تاريخ النشر January 26, 2022
A A A
حالة الإنكار السلطوية تضع لبنان في خانة الدول “المارقة”
الكاتب: خالد أبو شقرا - نداء الوطن

لو كان الحديد هو معدن المنظومة المتحكّمة، لكانت “لانت” على حماوة التقارير الدولية التي تحمّلها مسؤولية الانهيار عمداً. إلا أنه “دق المي بتبقى مي”. فهذه السلطة التي لم يهزها “اندثار” الاقتصاد اللبناني، والموت المجاني لافتقاد المواطنين القدرة على شراء الدواء، و”نزوح” ثلثي الشعب إلى ما تحت خط الفقر و«تبخر» ثروتهم، لن يعدّل مسارها «شتي» البيانات الأممية الشاجبة.

«الإنكار الكبير»، توصيف جديد أطلقة «البنك الدولي» على الأزمة اللبنانية المفتوحة على لامبالاة «الزمرة» الحاكمة في أحدث تقاريره الدورية: «المرصد الاقتصادي للبنان»، خريف 2021. فمن بعد ما وصفها بـ«الكساد المتعمّد» في تقرير خريف 2020، وتحذيره من أن «لبنان يغرق»، في تقرير ربيع 2021، ها هو البنك الدولي يستعير من علم الطب النفسي مرض الإنكار لوصف الطبقة السياسية. وإذا كان الفرد يحاول حماية نفسه من خلال رفض قبول الحقيقة بشأن ما يحدث في حياته، فان «قيادات النخبة في البلاد التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها الاقتصادية دبّرت الكساد المتعمد»، بحسب البنك الدولي للمحافظة على مكتسباتها وحماية لمصالحها.

 

 

التمويل قد لا يتأثر

ما عبر عنه عنوان تقرير البنك الدولي، بلغة قاسية «محفوظ غيباً من اللبنانيين؛ لا بل هم يلمسونه يومياً لمس اليد. بيد أن الوزن الكبير الذي يكتسبه التقرير لا يقتصر على أن هذا الكلام صادر عن أعلى مرجعية اقتصادية في العالم أجمع فحسب، إنما مرده إلى التعويل الكبير على البنك الدولي لتخفيف المعاناة. فهو من يتكفل بقرض الحماية الاجتماعية، وتمويل خطة النقل، وإليه تلجأ السلطة لاستقراض بدل استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر، ودعم القطاعات التربوية والصحية… والقائمة تطول من المطالب الملحة. فهل من الممكن أن يؤثر هذا الواقع على تلبية المطالب في المستقبل القريب، إن لم تتحقق الاصلاحات؟

الكاتب والمحلل الإقتصادي والمدير التنفيذي لشركة ‹› InfoPro ‹› د. رمزي الحافظ يعتبر أن «هذه المؤسسة الدولية التي كانت شريكة السلطة على مدار العقود الثلاثة الأخيرة في «السراء والضراء»، ستلاقي الطريقة المناسبة للإلتفاف على عدم تنفيذ الاصلاحات والاستمرار في التمويل، في حال توفر القرار السياسي. وهذا ما يتمثل في تسديد ثمن استجرار الطاقة مباشرة للدول المساعدة كالأردن ومصر من دون المرور في القنوات الرسمية اللبنانية، وتشكيل صندوق للمساعدات المباشرة لبعض القضايا الطارئة والملحة». وبحسب الحافظ فان «الدول التي دأبت على وعظ لبنان، منذ المبادرة الفرنسية وصولاً ليومنا الحاضر، مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالاعتراف بجوهر المشكلة السياسية والمساعدة على حلها. ذلك أن معالجة الأمور الاقتصادية والتقنية مقدور عليها».

 

 

الأزمة بالأرقام

بالأرقام، يُقدِّر التقرير إجمالي الناتج المحلي الحقيقي لعام 2021 بحدود 21.8 مليار دولار أميركي، متراجعاً من 52 مليار دولار في العام 2019. ويقدر الانكماش بنسبة 58.1 في المئة، وهو أشد انكماشاً في قائمة تضم 193 بلداً. ويظهر انخفاض الإيرادات الحكومية إلى النصف تقريباً لتلامس 6.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهي ثالث أقل نسبة على مستوى العالم بعد الصومال واليمن. كما يُقدّر أن يبلغ الدين الإجمالي 183 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2021، ليُسجِّل لبنان رابع أعلى نسبة مديونية في العالم بعد اليابان والسودان واليونان. كما أدى انهيار الليرة بنسبة 219 في المئة، إلى قفزة كبيرة للتضخم الذي يُقدَّر أن معدله بلغ في المتوسط 145 في المئة، ليسجل بذلك ثالث أعلى معدل على مستوى العالم بعد فنزويلا والسودان.

 

وقف الانهيار ليس من مصلحة المنظومة

هذا الانهيار الاقتصادي والمجتمعي «لا يقابل بأي تدابير جدية لوقفه»، يقول المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية زياد عبد الصمد. «الامر الذي يدفع بمسؤولي البنك الدولي إلى طرح علامات استفهام كبيرة في تقاريرهم عن الاهداف التي تحول دون التصدي لهذا الانهيار. وهذا ما رأيناه أيضاً في التقارير السابقة. ولا سيما منها تقرير ربيع 2021 لبنان يغرق». وبحسب عبد الصمد فان الانهيار هو تعبير عن: «فشل النموذج»، ما يحتم في المقابل إعادة النظر به.

إلا أن المشكلة تتمثل في أن القائمين على هذا النموذج هم أنفسهم الاطراف المستفيده منه، وإصلاحه سيأتي على حساب هذه المنظومة المتمثلة بتحالف الطبقة السياسية مع المصارف، التي حققت مكتسبات هائلة في ظل هذا النظام الريعي. وأي حل سيؤدي إلى اقصائها وتقويض مصالحها. وهذا ما رأيناه في النقاش بين الحكومة والاستشاري لازارد من جهة وفريق المصارف ولجنة تقصي الحقائق من جهة أخرى. حيث تم التصدي لطرح تحميل القطاع المصرفي ومن خلفه مصرف لبنان مسؤولية الأزمة. وهذا ما نراه اليوم من خلال النية بتحميل المودعين 55 في المئة من الخسائر مقابل 17 في المئة للمصرف المركزي والباقي للدولة». ببساطة يرى عبد الصمد أن «النهج نفسه ما زال مستمراً ولم يتغير رغم الأزمة. فمن سبّب الانهيار بمراكمة الأرباح على حساب المواطنين والدولة ليس بنيته تحمل أي مسؤولية في إعادة النهوض».

 

التعويل على الصناعة في مكانه… ولكن

اللافت في التقرير كان تناوله في القسم الخاص «أسباب الزيادة الأقل من المتوقعة للصادرات على الرغم من التدهور الحاد لقيمة الليرة اللبنانية». وهذا ما يعزوه عضو مجلس إدارة جمعية الصناعيين بول أبي نصر إلى مجموعة من العناصر يأتي في مقدمها: إقفال أبواب الصادرات اللبنانية إلى دول الخليج العربي، وتحديداً إلى كل من السعودية والبحرين، وتأثير هذا الإجراء الكبير على غيرها من البلدان. فالمجموعات الدولية المستوردة المتواجدة بكثافة في دول الخليج كانت أمام حل من اثنين: إما فصل البضائع اللبنانية عن البضائع التي تسوق في السعودية، وإما التمنع عن الاستيراد من لبنان لتجنب المشاكل اللوجستية». وبحسب أبي نصر فان المشاكل مع السعودية أبقت قيمة الصادرات بحدود 250 مليون دولار في حين أن الطموح كان العام الماضي رفعها إلى 500 مليون دولار. إضافة إلى هذه المعوقات يلفت أبي نصر إلى مجموعة من المعوقات الداخلية والخارجية أبرزها:

– تراجع الرغبة عند الشركات اللبنانية في زيادة استثماراتها وتنويعها ورفع انتاجها نظراً إلى حالة عدم اليقين الداخلية ومخاطر وقف التصدير إلى الكثير من الدول في أي لحظة.

– الانقطاع المستمر في التيار الكهربائي وسط العجز عن تأمين مادة المازوت للمولدات. خصوصاً قبل رفع الدعم، واضطرار الصناعيين إلى تأمين هذه المادة بأغلى الاسعار من السوق السوداء. الأمر الذي اضطر المعامل إلى تخفيض الانتاج وبالتالي تخفيض قدرتهم على التصدير.

– إرتفاع منسوب القلق عند المستوردين الخارجيين من عدم قدرة المؤسسات اللبنانية على تلبية طلبياتهم، وتفضيلهم التريث في عقد الاتفاقيات.

– جائحة كورونا وانعكاسها على استمرار الكثير من الدول بإقفال حدودها من جهة، وما رتبته من ارتفاع أكلاف الشحن من الجهة الثانية.

أبي نصر الذي لا يخشى على ارتفاع الصادرات بشكل تدريجي في القادم من السنوات يعتبر أن الرفع المفاجئ والسريع للصادرات يتطلب تمويلاً كبيراً، وهذا ما فقدناه في لبنان نتيجة تعثر القطاع المصرفي.

كما جرى تفصيله والتنبيه إليه في الأعداد السابقة من تقرير المرصد الاقتصادي للبنان، يشدد البنك الدولي على أن استراتيجية الخروج من الأزمة يجب أن تركز على هذه النقاط:

– إطار جديد للسياسة النقدية يعيد الثقة والاستقرار في سعر الصرف.

– برنامج إعادة هيكلة الدين الذي من شأنه أن يحقّق الحيّز المالي على المدى القصير واستدامة الدين على المدى المتوسط.

– إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي من أجل استعادة ملاءة القطاع المصرفي.

– تصحيح مالي مُنصف وتدريجي يهدف إلى إعادة الثقة في السياسة المالية.

– إصلاحات تهدف إلى تعزيز النمو.

– تعزيز الحماية الاجتماعية.

إضافة لهذه النقاط يعتبر البنك الدولي أن الشروع في إصلاح شامل ومنظم وسريع لقطاع الكهرباء يعتبر خطوة بالغة الأهمية لمعالجة التحديات الطويلة الأمد والمعقدة لهذا القطاع، الذي يبقى في صميم مسار الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي في لبنان.

إضافة إلى ذلك، يحتاج لبنان إلى تكثيف الجهود لضمان تقديم مساعدات الحماية الاجتماعية للفقراء والأسر الأكثر عرضة للمخاطر، والتي ترزح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية المستمرة.