Beirut weather 21.88 ° C
تاريخ النشر December 21, 2025
A A A
جواز السفر اللبناني “وطن على ورق”… اللبنانيّون يلهثون وراء جنسيّة “أجنبيّة” بحثاً عن الأمان والحماية
الكاتب: ربى أبو فاضل - الديار

بين وطن يتآكل فيه إحساس الأمان يوماً بعد يوم، وعالم لا يفتح أبوابه إلا بشروط قاسية ومعايير انتقائية، يقف اللبناني عالقا في منطقة رمادية بين انتماء مثقل بالخيبات، وبحث مضن عن نجاة مؤجلة.

فمع الانهيار الاقتصادي، وغياب الدولة، وانعدام الثقة بالمستقبل، بات جواز السفر اللبناني في نظر كثيرين رمزاً لهوية أنهكتها الأزمات، فيما تحولت الجنسية الأجنبية إلى ما يشبه طوق نجاة ، في بحر من الانهيارات المتراكمة.

هذا السعي نحو جنسية ثانية، لا يعكس فقط رغبة في الهجرة، بل يفضح انهيار الثقة بين المواطن ودولته، ويعيد طرح سؤال مؤلم هل مازالت المواطنة في لبنان وعدا قابلا للحياة؟ أم مجرد ورقة رسمية بلا مضمون؟ فالحصول على جنسية أخرى، لم يعد ترفاً اجتماعياً أو حلماً بالرفاه، بل تحول لدى شريحة واسعة من اللبنانيين إلى خطة بقاء، ومحاولة أخيرة للإمساك بخيط أمان مفقود.

جنسية تطلب لا حبا في الرحيل، بل خوفاً من الغرق في وطن عاجز عن حماية أبنائه، وتأمين أبسط حقوقهم في العيش الكريم، والعمل، والصحة، والمستقبل.

خيار اضطراري

تتجسد هذه الظاهرة في قصص الناس، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للاختيار بين وطن يحبونه ومستقبل لا يضمنوه.

مروان، شاب في منتصف الثلاثينات، لم يكن يوما يفكر بترك لبنان أو تبديل جنسيته، واليوم يحمل ملفا كاملا من الطلبات والمراسلات بحثا عن جنسية ثانية، لا لأنها حلمه، بل لأنها خيار اضطراري، “بدأت التفكير بجنسية ثانية بعد انفجار مرفأ بيروت، ثم ترسخ القرار مع الانهيار المستمر. راتبي لم يعد يكفيني، لا ضمان صحي، ولا أمان وظيفي، ولا أي رؤية للمستقبل، أحب لبنان، لكن الحب وحده لا يحميني عندما ينهار كل شيء من حولي”.

الباحث في المؤسسة “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين أكد أن “اللبنانيين الحاملين لجنسية ثانية، غادروا لبنان بعد انفجار المرفأ، خصوصا أن هجرتهم سريعة، فهم ليسوا بحاجة إلى فيزا، وهم أكثر من 70%”، لافتا إلى أن “هؤلاء يهاجرون من وطنهم الأصلي إلى وطنهم الثاني، حيث عملهم ومسكنهم مؤمن”.

أما عن الوجهة الأخيرة الذي يهاجر إليها اللبنانيون: “العدد الأكبر إلى الدول الأوروبية وأميركا، وعدد قليل إلى الدول العربية، حيث فرص العمل لا تزال قليلة”.

دولة لم تعد تشبه مُواطنيها

في المقابل، هناك من حصل على الجنسية بالفعل، مثل بسام، أب لطفلتين وحاصل على جنسية أوروبية، بعد سنوات من العمل والإقامة، فيوضح أن قراره لم يكن سهلا، “لم أطلب الجنسية لأنني كرهت لبنان، بل لأن لبنان لم يعد قادرا على حماية عائلتي. كنت أؤجل القرار دائما، كأنني أراوغ نفسي، شعرت لوقت طويل أن الحصول على جنسية ثانية خيانة معنوية، وعندما تبخرت مدخراتي في المصرف، فهمت أن الانتماء وحده لا يكفي للبقاء”، مؤكداً ” لبنان ما زال هويتي الثقافية والوجدانية، لكن جنسيتي الجديدة هي بوليصة تأمين للحياة، لا أكثر”.

وبين هؤلاء وآخرين، هناك من لا تعتبرهم الجنسية أمرا ذا أهمية، مثل ريما التي أكدت أنها لم تفكر يوما بالحصول على جنسية أخرى، رغم كل ما مر به البلد ، “عشت الحرب والغلاء والانهيار، هذا وطني بكل ما فيه”. ريما وهي أم لطفلين لا تنكر حجم المعاناة، لكنها ترى أن الهجرة أو البحث عن جنسية بديلة ليست حلا للجميع ، “ليس كل الناس قادرة على الرحيل، ولا كل من يبقى غافلا أو راضيا، البعض ببساطة لا يملك خيارا آخر”. وتختم “مشكلتنا ليست بالجنسية، بل بدولة لم تعد تشبه مواطنيها”.

الدوافع للتفكير في الحصول

على جنسية أخرى

ويسمح القانون اللبناني بتعدد الجنسيات، مما يسهل على المواطنين الاحتفاظ بهويتهم الأصلية، مع السعي لتأمين “ملاذ آمن” عبر جنسية ثانية، تضمن لهم حرية التنقل والاستقرار.

اللافت، أن السعي إلى جنسية أجنبية لم يعد حكرا على فئة محددة، بل أصبح خيارا يطال مختلف شرائح المجتمع اللبناني، ويمكن اختصار دوافع اللبنانيين للتفكير في الحصول على جنسية أخرى، إلى ثلاثة عوامل رئيسية مترابطة:

1- الانهيار الاقتصادي والاجتماعي غير المسبوق منذ الأزمة المالية عام 2019، حيث أصيب الاقتصاد بالشلل، وتدهورت قيمة الليرة، وفقدت فرص العمل الحقيقية حتى بين حملة الشهادات العليا، ما دفع آلاف الشباب إلى البحث عن خيارات جديدة خارج لبنان.

وفي هذا السياق، يؤكد الباحث والكاتب الاقتصادي الدكتور بطرس لبكي أن “مع بداية الأزمة المالية عام 2019، خسر لبنان نحو 600 ألف نسمة، أي حوالى 15% من عدد اللبنانيين المقيمين فيه، لترتفع الوتيرة مع تأزم الوضع السياسي والأمني في البلد، إضافة إلى الحرب التي دفعت بالعديد من اللبنانيين إلى الهجرة وترك البلد”.

2- البحث عن الأمان وحماية مستقبل العائلة، إذ يرى كثيرون في الجنسية الأجنبية شبكة أمان تتيح لهم السفر والاستقرار في دول أكثر استقرارا سياسيا واقتصاديا، مع وصول مقبول للخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية.

3- ضعف الدولة وتراجع الخدمات والمؤسسات، إذ أدى غياب الوظائف الحكومية الفاعلة، والانقطاع المستمر للكهرباء، وتفشي الفساد، وتحول المصارف إلى قوة اقتطاعية، إلى فقدان الثقة في الدولة، وجعل اللبنانيين ينظرون إلى هويتهم الوطنية كخيار قابل للاستبدال.

مُواطنون من الدرجة الثانية في وطنهم

هذا الواقع يترك آثارا عميقة على المجتمع اللبناني، فهجرة الأدمغة تسببت بفقدان كفاءات علمية ومهنية، وأثرت على إنتاجية قطاعات حيوية، فيما التحويلات المالية للمغتربين تدعم الأسر، لكنها لا تعوض عن غياب اقتصاد منتج ومستدام.

وفي هذا الإطار، أكد الباحث لبكي إلى أن “هجرة الشباب أصبحت نقمة على البلد من الناحية الاقتصادية:

– أولاً: انخفض الإنتاج المحلي ، نتيجة السياسات الخاطئة للصناعة والزراعة والمتبعة من أشخاص ليسوا من ذوي الخبرات، لتنخفض معه عائدات البلاد.

– ثانياً: كثرت في السنوات الأخيرة الجامعات التعليمية في لبنان، وخرّجت طلاباً عدة لم يجدوا عملاً، لتصبح الجامعة أداة من أدوات التهجير اللبناني، وحوالى 15% من الجامعيين هم من المهاجرين ويعملون في الخارج”.

أما على الصعيد الاجتماعي، أدت الهجرة إلى تفكك بعض الأسر وضعف الروابط المجتمعية. كما يعاني اللبنانيون في المهجر شعورا بالهوية المزدوجة أو منزوعة الثقة بالوطن ، إذ يشعرون أحيانا بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية في وطنهم، خصوصا في ما يتعلق بالحقوق السياسية”.

صرخة صامتة في وجه الدولة

اشارة الى ان لبنان يحتل المرتبة السادسة بين الدول العربية، من حيث عدد المغتربين في العالم. وبحسب آخر الإحصاءات، يتبين أن عدد المهاجرين اللبنانيين والمغتربين من أصل لبناني والمنتشرين في بلدان العالم، يتراوح عددهم ما بين 8 و 12 مليون نسمة، أي أضعاف عدد اللبنانيين المقيمين في لبنان، في البرازيل مثلا، البلد الأول الذي تنشط فيه هجرة اللبنانيين، أكثر من 8.8 ملايين برازيلي من أصل لبناني بحسب الحكومتين البرازيلية واللبنانية، ثم تأتي كندا، تليها كل من ألمانيا وفرنسا، وأوستراليا والولايات المتحدة الأميركية. وتعتبر قبرص واليونان والبرتغال وحتى إسبانيا وإيطاليا من الدول التي تقدم الإقامة على أراضيها للمستثمرين.

 

في النهاية، سعي اللبناني للحصول على جنسية أجنبية ليس خيانة للوطن، بل صرخة صامتة في وجه دولة، فشلت في تأمين الأمان والحماية لمواطنيها، ورسالة واضحة مفادها أنه حين لا يشعر المواطن بأن بلده يحميه، فإنه يبحث عن حماية بديلة… ولو كانت مجرد جواز على ورق.