Beirut weather 16.88 ° C
تاريخ النشر December 15, 2025
A A A
جنوب لبنان في ميزان القوة الإسرائيلية: صراع جيوسياسي مفتوح
الكاتب: المحامي زكريا الغول

كتب المحامي زكريا الغول في “اللواء” 

قد يبدو المشهد الشرق أوسطي اليوم متخمًا بصراعاته المتشابكة، من فلسطين إلى العراق مرورًا بلبنان وسوريا. إلا أن بعض الملفات، مهما تبدّلت التحالفات وتغيّرت خرائط القوة، تبقى ثابتة في عمق النزاع الجيوسياسي. ومن تلك الملفات الخطيرة التي لم تفقد حساسيتها منذ قرن كامل: الطموح الصهيوني المتواصل تجاه جنوب لبنان، ولا سيما منطقة الليطاني، التي رأت فيها الحركة الصهيونية منذ نشأتها امتدادًا طبيعيًا لمجالها الحيوي.

هذه الرغبة ليست تفصيلاً تاريخيًا من زمن الانتداب، بل هي خيط ناظم يمتد من عشرينيات القرن الماضي حتى اللحظة الراهنة، متحوّلة من مطالب حدودية مكتوبة إلى استراتيجيات عسكرية وسياسية واقتصادية تتخذ أشكالًا مختلفة، لكنها تتغذّى من الفكرة ذاتها: أنّ الجنوب اللبناني، بمياهه وموقعه، يشكّل ثغرة يجب سدّها أو فضاء يجب التحكم به.
منذ اللحظة التي رُسمت فيها حدود لبنان الكبير، بقي نهر الليطاني موضع حساسية استثنائية في الوعي الصهيوني. فالجغرافيا في المنطقة ليست مجرد طبيعة، بل هي عنصر صراع وجودي. نهرٌ يجري في دولة مجاورة قد يصنع في الخطاب الصهيوني فارقًا بين دولة قابلة للحياة ودولة محاصرة بالهواجس.
هكذا، منذ البداية، لم يُنظر إلى الليطاني كجار هادئ، بل كفرصة ضائعة. ورغم تثبيت الحدود رسميًا، ظل الاعتقاد الصهيوني راسخًا بأن تلك الحدود ليست نهائية، بل مؤقتة، رسمتها القوى المنتدبة وفق حسابات لا تنسجم مع تطلعات المشروع اليهودي.
هذا التصوّر، على الرغم من مرور مئة عام عليه، لم يُدفن في أرشيف النوايا القديمة، بل بقي يتحرك في العمق، بمرونة تسمح له بالتكيّف مع تعقيدات الزمن.
لم تتوقف إسرائيل يومًا عن النظر إلى جنوب لبنان بوصفه مفصلاً استراتيجيًا يتجاوز مجرد الجوار. ومع الزمن، تدرّجت أدواتها للتعامل مع هذه المنطقة على ثلاثة مستويات مترابطة:
منذ الاجتياح الأول عام 1978 وحتى الاحتلال الواسع عام 1982، كانت إسرائيل تختبر فكرة خلق واقع جغرافي وأمني يمكّنها من التحكم بمنطقة تشكّل، في حساباتها، عمقًا أمنيًا ونافذة محتملة نحو المياه. ومع إنشاء «الشريط الحدودي»، بدا أن المشروع يتخذ شكلًا واقعيًا، لكنه ظلّ هشًا، يعتمد على القوة العارية أكثر مما يستند إلى بنية سياسية ثابتة.
بعد فشل السيطرة المباشرة، لجأت إسرائيل إلى نماذج النفوذ عبر وكلاء محليين، محاولةً خلق منطقة تفصلها عن الدولة اللبنانية وتمنحها قدرة على مراقبة الجنوب وإبقاء الدولة اللبنانية عاجزة عن فرض سيادتها الكاملة. ورغم أن هذه المحاولات انتهت عسكريًا، إلا أن أثرها السياسي والأمني ظل حاضرًا في نظرة إسرائيل إلى الجنوب.

في بلد تنخره الانقسامات الطائفية والسياسية، وجدت إسرائيل بيئة ملائمة لمقاربة مختلفة: ليست عبر الدبابات فحسب، بل عبر قراءة دقيقة للانقسام الداخلي الذي يجعل الجنوب، في لحظات الضعف، منطقة مكشوفة أمام التدخلات الخارجية. وهكذا، بقيت إسرائيل تتعامل مع الجنوب كمساحة يمكن الضغط عليها كلما احتدمت ملفات إقليمية أكبر.
من بين العناصر الثابتة في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي فكرة أن القوى المنتدبة—وتحديدًا بريطانيا—ارتكبت خطأ تاريخيًا حين لم تضم منطقة الليطاني إلى فلسطين الانتدابية. هذا الشعور، وإن بدا للبعض قديمًا، لعب دور «الرواية التأسيسية» التي غذّت عبر العقود سياسات تتراوح بين التوسّع، والضغط، ومحاولات فرض واقع جديد.
إنه ليس رأيًا عابرًا لسياسيين، بل منطق يتكرر في الخطاب الإسرائيلي المعاصر: الليطاني ثروة لا ينبغي أن تكون خارج دائرة النفوذ الأمني والاقتصادي الإسرائيلي، حتى وإن استحال ضمّه رسميًا في سياق النظام الدولي الحالي.
لا يمكن فهم الأطماع الصهيونية في جنوب لبنان بمعزل عن المشهد الإقليمي الأكبر، لأن هذه الأطماع تغيّرت وتطوّرت بقدر ما تغيّر الشرق الأوسط نفسه.
فالمنطقة اليوم مسرح صراع متعدد الطبقات:
•تنافس أميركي–إيراني يمتد من العراق إلى سوريا وصولًا إلى لبنان.
•صراع على الممرات البرية من الخليج إلى المتوسط.
•صدام على مصادر الطاقة والمياه، التي أصبحت عنصرًا متقدّمًا في سياسات الأمن القومي.
وفي هذا السياق، يتحوّل جنوب لبنان إلى مساحة تتقاطع فيها حسابات القوى الكبرى والإقليمية، بحيث لا يبقى مجرد منطقة حدودية، بل نقطة ضغط يمكن أن تغيّر معادلات أكبر بكثير من جغرافيته.

إسرائيل، التي تراقب هذا المشهد عن كثب، ترى في الجنوب بوابة يمكن أن تتسلل عبرها تأثيرات تهدد أمنها، أو تُغلق عبرها فرص استراتيجية على المدى الطويل. لذلك، لم تغب المنطقة عن حساباتها، ولم تتعامل معها يومًا كمساحة لبنانية صرفه.
رغم مرور قرن كامل على رسم الحدود بين لبنان وفلسطين الانتدابية، فإن عمق النزاع على الجنوب لم ينتهِ. الحدّ السياسي ثابت، لكنه الحدّ الاستراتيجي في الوعي الإسرائيلي ظلّ مرنًا، قابلًا للتعديل كلما تغيّر ميزان القوى في المنطقة.
ولعلّ أخطر ما في هذا الملف هو أن أطماع الماضي، التي وُلدت قبل قيام إسرائيل، لم تتراجع في ظل دولة تمتلك جيشًا واقتصادًا وتكنولوجيا متقدمة، بل تحوّلت من مطالب حدودية إلى تصوّرات أمنية، ومن خرائط ورقية إلى خطط عسكرية وتحالفات ومشاريع نفوذ.
ليست قصة الأطماع الصهيونية في جنوب لبنان مجرد فصل من تاريخ الانتداب، بل هي مرآة لصدام مستمر بين جغرافيا ثابتة ومشاريع سياسية تتغيّر. الجنوب، بمياهه وتضاريسه وموقعه، لم يكن يومًا مجرد بقعة خارجة عن الصراع، بل هو نقطة توازن هشّ تحكمها حسابات تتجاوز قدرة دولة صغيرة على حمايتها منفردة. وإذا كان الماضي يقدم دروسًا واضحة، فهي أنّ الأطماع التي تُبنى على الجغرافيا لا تموت بسهولة. وهي ليست حدثاً عابراً ولا مطلباً جغرافياً قديماً انتهى مع رسم الحدود وأن جنوب لبنان سيبقى، مهما تغيّرت المعادلات، جزءًا من معركة أكبر على المياه، والأمن، والنفوذ، وعلى الشرق الأوسط نفسه، الذي ما زال منذ قرن يعيش على إيقاع صراع لم يهدأ بعد.