Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر January 25, 2024
A A A
توحيد أسعار الصرف انطلق و”المركزي” لا يمانع إسناد المهمّة إليه… بشروط؟
الكاتب: سلوى بعلبكي - النهار

 

ليس خافياً أن قطار توحيد أسعار الصرف المتعددة في لبنان انطلق فعلياً والاستعدادات باتت على قدم وساق، علماً بأن البداية كانت مع قرار مصرف لبنان رفع سعر منصة صيرفة قبل نهاية عام 2023، ليتماهى مع سعر الصرف الحقيقي في السوق الموازية. بالإضافة إلى التعديل المرتقب في آلية التعميم 151 بعد التريّث موقتاً فيه، وكذلك الاعتراف المبطن في موازنة عام 2024 بسعر السوق الحقيقي للدولار، وتقييم معظم الإيرادات والمصروفات العامة على أساسه.

معنى ذلك أن السلطات النقدية والمالية جهزت الأرضية الإدارية والمحاسبية اللازمة، والمظلة السياسية الضرورية في انتظار التوافق مع السلطتين التشريعية والتنفيذية بعد إقرار موازنة 2024 من ناحية، وإصدار وزير المال قراراً يقضي برفع سعر الصرف الرسمي للدولار من 15 ألفاً إلى 89 ألفاً و500 ليرة من ناحية أخرى، دون إغفال أن سعر الصرف الرسمي المعتمد في الموازنة لا يزال غامضاً حتى الساعة.

مصادر مصرف لبنان لا ترى حرجاً في إسناد مهمة توحيد سعر الصرف لـ”المركزي” بالتوافق مع وزارة المال، شريطة أن يكون سعر صرف قريباً من الواقع، فيما تبقى معضلة ما يُعرف بالدولار المصرفي (اللولار). فإن لم يتحدد في الموازنة مصير سعر صرفه فلا يحق لمصرف لبنان وفق القانون أن يتفرّد بذلك وأن يحدد سعراً وهمياً غير حقيقي له، فالقانون لا يجيز لأحد صلاحية حرمان المواطن من قيمة وديعته الفعلية. وبناءً على ذلك فإن صدور موازنة 2024، يجب أن يترافق وفق المصادر عينها، إما مع إقرار قانون “كابيتال كونترول” يحدّد سعر الصرف على 89 ألفاً و500 ليرة ومعه سقوف السحب والتحويل، أو تشريع قانوني يحدّد سعر صرف الدولار المصرفي على سعر يقرب ما أمكن من سعر الصرف في السوق.

وتضيف المصادر أنه بعد صدور الموازنة، فإن سعر الصرف على سعر 15 ألف ليرة لن يعود موجوداً خصوصاً أنه كان مسنداً الى موازنة 2022، فيما اعتُمد هذا السعر في شباط 2023 في ميزانيات المصارف والمؤسسات التجارية، وهو لا يزال سارياً حتى اليوم، وتالياً فإن تحريره صار أمراً واقعاً، وسعر الصرف الحقيقي أصبح 89 ألفاً و500 ليرة في ظل استقرار سعر الصرف. وتختم المصادر بتأكيد ضرورة إيلاء معالجة الدولار المصرفي الأهمية القصوى، نظراً الى ضخامة قيمة الودائع، وعدم وجود سيولة كافية تدفع للمودعين على أي سعر قريب من الواقع.

قانصو: التوحيد انطلق تمهيداً للتعويم المدار
تحمل عملية توحيد أسعار سعر الصرف في طياتها إيجابيات عدة، وفق ما يقول الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق العربية الدكتور فادي قانصو لـ”النهار” منها “إنهاء حالة الفوضى السائدة في سوق القطع وتخليص الاقتصاد من عدد كبير من التشوّهات وأوجه القصور الناجمة عن تعددية أسعار الصرف، فالتوحيد يقضي على عمليات المضاربة والتلاعب والانتفاع غير المشروع على حساب المواطنين نتيجة الهوامش والفوارق بين أسعار الصرف، ما يعيد الثقة بالليرة تدريجاً ويعزّز دورها كعملة تداول. كما يسهم التوحيد في لجم الضغوط على الاحتياطات بالعملات الأجنبية الناجمة عن تدخّل المركزي المستمر لتغطية هذه الفوارق كما كانت الحال مع منصة صيرفة. في المقابل إن توحيد أسعار الصرف لا يعني بالضرورة لجم كل من التضخم والانخفاض في سعر صرف العملة المحلية، لأن هذه الخطوة، إن لم تأت مع حزمة خطوات مالية ونقدية كإقرار خطة التعافي المالي والاقتصادي وقانون الانتظام المالي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي والقطاع العام وأيضاً قانون “الكابيتال كونترول”، فقد تكون خطوة ناقصة وغير فعالة”. الى ذلك، فإن توحيد أسعار الصرف من شأنه أن يعزز الشفافية والمصداقية في السياسة المالية والنقدية بالنسبة للمجتمع الدولي، وأيضاً بالنسبة للداخل اللبناني وتحديداً للمودع الذي آن له الأوان أن يعيد على الأقل تقييم ودائعه الدولارية على أساس قيمة الدولار الحقيقي لتنتهي معها مرحلة الهيركات، وإن لم تزل عملية استرجاعها كاملة صعبة المنال راهناً.
لا شك في أن إصدار ميزانيات مصرفية بسعر صرف موحد بعيد عن سعر الصرف المصرفي السائد حالياً والذي لا يشكل أكثر من 17% من سعر الصرف في السوق الموازية يُعد برأي قانصو تطوّراً مهماً ومنعطفا أساسياً على المستوى المالي في لبنان وتحديداً المصرفي “لتطوى صفحة سوداء في تاريخ القطاع المصرفي اللبناني ومجحفة في حق المودعين، ولنودع بذلك هرطقات مصرفية ابتكرت مصطلحات فريدة من نوعها، فرّقت ما بين الدولار المصرفي أو ما يُعرف باللولار، والدولار الجديد ما بعد 17 تشرين الأول أو ما يُعرف بالـ”فريش”.

بيد أنه يشير الى أن “إصدار ميزانيات مصرفية بسعر صرف موحد أعلى من 15 ألف ليرة للدولار، يشكل تحدياً أساسياً للقطاع المصرفي، إذ إنه سيعكس الصورة الحقيقية والواقعية لوضعية المصارف على صعيد ماليتها وحجم رساميلها وسيولتها وملاءتها عموماً، ولا سيما أنه سيترافق مع تراجع كبير في قيمة رساميل المصارف وفي نسب ملاءتها، عملياً، لتتبخر دفترياً، بعدما فقدتها نظرياً منذ اندلاع الأزمة في نهاية عام 2020″. مع الإشارة إلى أن التأثير السلبي سيطال نسبة كفاية رأس المال لدى المصارف، أي النسبة التي تحدد مدى قدرة المصرف على تحمّل المخاطر الجمّة مثل مخاطر الائتمان، والمخاطر التشغيلية وغيرها، التي من شأنها أن تحمي المصرف والمودعين والمقرضين، والمحافظة على الثقة بالنظام المصرفي. وتالياً ستتحدد المصارف القادرة على إعادة الرسملة والاستمرار، وتلك التي لن تقوى على الاستمرار والخروج من السوق”.

من هنا، يقول قانصو إن “أي قرار قد يطال رفع سعر صرف السحوبات المصرفية من 15 ألف ليرة للدولار يُعدّ خطوة أساسية نحو استعادةٍ ولو جزئية لأموال المودعين المحتجرة منذ نهاية عام 2019. ولكن تقنياً، هل تستطيع المصارف ومعها مصرف لبنان تسديد السحوبات المصرفية بالدولار وفق سعر صرف الـ90 ألفاً على سبيل المثال؟ يجيب قانصو بالقول إن “المصارف تفتقر إلى السيولة بالليرة في ضوء سياسة مصرف لبنان المعتمدة لجهة العمل على امتصاص الكتلة النقدية بالليرة من السوق ولجمها من أجل المحافظة على استقرار سعر الصرف، وأي عملية رفع لسعر صرف السحوبات المصرفية، تعني طبع المزيد من الليرات وخلق فائض في السيولة بالليرة، من شأنه أن يسلك حكماً معبر السوق السوداء، ما يعني المزيد من الطلب على الدولار، وتالياً المزيد من الانهيار في سعر الصرف. وهذا يعني أننا قد نكون أمام احتمالين: خفض إضافي لسقف السحوبات الشهرية ليتماشى مع أهداف المركزي لناحية تجفيف السوق من الليرات، أو تسديد الودائع بالدولار الفريش بدلاً من الليرة اللبنانية”.
ماذا بعد التوحيد؟
من المتوقع أن تمهد عملية توحيد أسعار الصرف الطريق أمام عملية تحرير تدريجي لسعر الصرف مع انطلاقة منصّة “بلومبرغ” التي من المتوقع أن تعكس السعر الحقيقي للسوق، ولكن تنبغي الإشارة الى أن مسألة تحرير أو تعويم سعر الصرف في الاقتصاديات المدولرة وغير المتقدمة أو غير النامية، كما هي حال لبنان، قد تكون لها متطلبات أساسية لتفادي أي تداعيات سلبية في أعقاب عملية التعويم. فتحرير سعر الصرف وفق قانصو يحتاج أقله إلى استقرار اقتصادي، وتحديداً اقتصاد منتج يحقق نسب نموّ اقتصادية، لتحقيق بعض التوازن في النظام المالي ولضبط سعر الصرف بعد التعويم، وهو ما يفتقده لبنان اليوم في ظل انكماش حادّ في الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 50 مليار دولار في عام 2019 إلى ما دون 19 مليار دولار اليوم، فكيف إن كان باقتصاد يعاني من ركود تضخمي. كما أن تحرير سعر الصرف يحتاج إلى استقرار سياسي، إذ إن أي خضة سياسية قد تؤدي إلى تفلت كبير في سعر الصرف، ما يعني المزيد من التضخم ومن التآكل في القدرة المعيشية. ويضيف أن “تحرير سعر الصرف يحتاج إلى غياب للفساد وشفافية مطلقة في السياسة الاقتصادية والمالية والنقدية وقدرة من قبل المؤسسات المالية المرجعية على التدخل لضبطه في حال حدوث خضات سياسية أو اقتصادية، وهو ما نفتقده اليوم في بلد تكثر فيه الخضات السياسية والاقتصادية ويعاني من سوء إدارة وفساد متغلغل. رابعاً، يستحيل تحرير سعر الصرف قبل تحديد الخسائر المالية وتوزيعها ومعالجتها، فاللحظة التي سيُعتمد فيها سعر صرف عائم وموحّد، بشكل يعكس قيمة الدولار الفعلية بحسب موازين العرض والطلب، ستكون لحظة انكشاف كتلة ضخمة من الخسائر المتراكمة داخل مصرف لبنان والمصارف، بعد أن يتم تقويم الالتزامات الضخمة للمودعين بحسب قيمة الدولار الجديد في مقابل الموجودات الضئيلة بالعملة الصعبة لدي مصرف لبنان”.

باختصار، إن عملية ضبط سعر الصرف بعد تعويمه تحتاج إلى استعادة للثقة وتدفق للعملة الصعبة من الخارج، وهو ما سيعتمد على قدرة الخطة المالية على إعادة الانتظام المالي ومعالجة خسائره جذرياً. وتالياً يرى قانصو أن “من المبكر اليوم الحديث عن تعويم حرّ في سعر الصرف، بل قد نتجه في المرحلة الأولى نحو تعويم مرن في سعر صرف بشكل مدار، أي أن يلجأ المركزي في سياسة إدارة سعر الصرف إلى ربط سعر الصرف بهامش حركة محدود، على أن تُحرَّك العملة صعوداً أو هبوطاً بناءً على أداء الاقتصاد الكلي، على أن يظل محكوماً بحجم الاحتياط النقدي الأجنبي، وأن يبقى تدخله في السوق قائماً عند حدوث خضات سياسية أو اقتصادية تنجم عنها تقلبات حادة في سعر الصرف في السوق الموازية”.