كتب ناصر قنديل في “البناء”:
في الظاهر تبدو المقاومة وكأنّها تخوض حرباً يائسة في غزة، أمام مشهد القتل والتدمير الذي يتعرّض له سكان غزة وما بقي من عمران في مدنهم ومخيّماتهم، بينما سقف ما يمكن تقديمُه، كما يقول المتشائمون، هو صراخ وشارع في مدن العالم، وبيانات تنديد من الحكومات، وبضعة صواريخ لا تقتل أحداً من اليمن، بينما يبدو رئيس حكومة كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو يُعيد صياغة المؤسسات الحاكمة على هواه وبما يتناسب مع المضي بالحرب قدماً، وبعد استبدال وزير الدفاع استبدل رئيس الأركان ثم رئيس الشاباك وربما يختتم المسار باستبدال المستشارة القضائيّة للحكومة، ويختتم حربه بانتصار كامل في الشهر العاشر كما حدّد موعد نهاية الحرب.
واقعياً تدور الحرب على ثلاثة مسارات، مسار الميدان الحربي في داخل غزة، وميدان الجبهة الداخلية للمقاومة والكيان، وميدان الرأي العام العالميّ وتأثيره على المناخ السياسي والإعلامي العالمي، ويمكن لدى التدقيق في المسارات رسم خطّ بيانيّ صاعد لصالح المقاومة وخط بيانيّ هابط وبسرعة في مسار نتنياهو وحكومته، فالتشدّد الذي يُبديه نتنياهو وحكومته بربط الحرب بتهجير الفلسطينيين ونزع سلاح المقاومة، يمنح حرب المقاومة وتأييدها شعبياً صفة الوجود، حيث لا بديل عن الصمود حتى النصر أو الاستشهاد مهما بلغت التضحيات، لأن لا بديل يتيحه مشروع نتنياهو أمام الفلسطينيّين ومقاومتهم، والمجازر وراء الباب إن ضعف الفلسطينيون وسلّموا السلاح او قبلوا التهجير، وهذه نكبة أين منها نكبة 1948، تنكّل بهم خلالها عصابات المستوطنين بلا رحمة.
الفشل عن تحقيق الأهداف يثبت كل يوم أكثر بالنسبة لحرب نتنياهو في غزة، رغم النجاح بقتل المزيد من الأطفال والنساء والمدنيين العزل، وهذا يعني حرباً بلا أفق، بينما تخسر “إسرائيل” تماسك جبهتها الداخليّة كل يوم أكثر، وتخسر قدرة جيشها على القتال وتهالك بنيته وتراجع عديد المقاتلين فيه، كما تخسر تأييد العالم، والغربي بصورة خاصة، فتمتلئ الشوارع بالمتظاهرين يهتفون لفلسطين حرة، وبعضهم لفلسطين حرة من البحر إلى النهر، وتتسابق الحكومات على الدعوة لتعليق التعاون الاقتصادي والتقني وحكماً العسكري والأمني، وصواريخ اليمن التي يتهكم البعض عليها تتكفل بتدمير الروح النفسيّة لملايين المستوطنين الذين يجري جرهم الى الملاجئ كل يوم، مرة في الفجر ومرة في الليل، وعندما يصبح عدد رافضي الحرب نسبتهم 80% من الجمهور، وعدد الذين يرفضون الذهاب إلى الخدمة العسكرية من الاحتياط أكثر من 66% من المسجّلين، والنسب إلى تصاعد مستمر بمعدل 10% إضافية كل شهر منذ شهر آذار، والعودة إلى الحرب، ما يعني أنه إذا لم تقف الحرب في الشهر القادم، سوف يزيد معارضو الحرب عن 90% وسوف يزيد الممتنعون عن الالتحاق بالجنديّة من الاحتياط عن 75%، وبالتالي انهيار الحكومة والجيش.
ما يعرفه الأميركيّ عن مأزق “إسرائيل” لا يدعه يصل إلى العلن، لكنه موجود في قلب المؤسسات الإسرائيلية، وما يستطيعه الأميركي لا يصرّح به، لكنه يعلم أن “إسرائيل” باتت تعتمد في بقائها على الدعم الأميركي اليومي، ولن تستطيع البقاء يوماً إضافياً في الحرب إذا قرر الأميركي العكس، والفارق بات واضحاً بين رؤية أميركية تلتقي بالأهداف ذاتها مع الرؤية الإسرائيلية لكنها لا تعتقد بإمكانية تحقيقها راهناً، فتكتفي برفع التهديد الراهن، كما فعلت بوقف إطلاق النار مع اليمن وكما تحاول أن تفعل في الملف النووي الإيراني، وتأجيل الحلول النهائية والاستراتيجية كسحب سلاح المقاومة وإنهائها لمرحلة لاحقة، ولو دون خطة واضحة متى يحين موعد ذلك، وهل سوف يحين بالتأكيد أم لا، بينما يرى نتنياهو أنه من دون نصر حاسم يُنهي المقاومة بعد حرب الطوفان فإن اليقين ببقاء “إسرائيل” وقدرة جيشها على حماية الكيان والمستوطنين سوف يصيبهما التصدع، وخير دليل رفض النازحين من المستوطنين العودة رغم كل ما تظهره “إسرائيل” من عروض للقوة.
البحث عن مخرج لا يهزم “إسرائيل” ولا يخوض حربها العبثية، هو محور الجهود الأميركية الراهنة، واستبدال نزع سلاح المقاومة وتهجير سكان غزة بتموضع السلاح بعيداً عن خطوط التماس، وتحت رعاية نشطة تعيد تشكيلها مصر وحكومة ترعاها مصر، يبدو مخرجاً مناسباً على الطريقة اللبنانية، ولذلك يمكن للمحاولة الراهنة أن تبلغ بر الأمان، إن أخذت بالاعتبار أن المقاومة جاهزة للمرونة في كل ما يقع تحت سقف ليس نزع السلاح من بين بنوده، بما في ذلك تموضع السلاح والدخول في مرحلتين يكون وقف الحرب في المرحلة الثانية حتمياً بضمانة أميركية، بعدما تكون الصيغة النهائيّة قد حسمت بين واشنطن والمقاومة.