Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر August 26, 2016
A A A
تركة باراك أوباما: شرق أوسط منفلت من عقاله
الكاتب: رؤوف بكر - الحياة

يختلف كثيراً حال وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس وهي توبّخ نظيرها الروسي سيرغي لافروف أكثر من مرة، عن مشهد المؤتمرات الصحافية الوادعة لخلَفها جون كيري مع لافروف والتي يظهر فيها كخيال أو صدى لكلام الأخير. بين النقاشات الحادة لرايس وتعليقاتها المنتقدة علناً وبقوة سلوك موسكو في غير ملفٍ في العالم، والتيه الذي يبدو عليه كيري في اجتماعاته مع رئيس الديبلوماسية الروسية، متغيرات عديدة فرضتها سياسات الإدارة الأميركية الحالية.

وبينما يلملم أوباما أوراقه للرحيل، يبدو الشرق الأوسط أكثر منطقة عانت من تبعات تلك السياسات. فالفوضى والإرهاب والمجازر التي انتهى إليها «الربيع العربي» جاءت في جزءٍ معتبرٍ منها نتيجة مقاربة واشنطن المرتبكة حيال دوله الخمس. فقد فشل الأميركيون في توقع ما آلت إليه الأمور في تونس وبدوا مرتبكين إلى حدٍ بعيد في بدايات الأحداث، وتسرعوا في الطلب من الرئيس المصري حسني مبارك التنحي فانتقل الحكم إلى الإسلاميين قبل أن تؤول الأمور إلى علاقات باردة مع القيادة الحالية. وتجاهل أوباما كلياً اليمن واعتبره لا يستحق سوى بضع ضربات «درونز» بين الحين والآخر بل وتحفظ على التدخل العربي فيه العام الماضي لكبح نفوذ طهران. وفي ليبيا، قاد الرئيس الأميركي الحرب من الخلف وتخلى عنها عند أول اختبار من دون أي برنامج عمل منظّم، واضعاً إياها تحت رحمة الميليشيات. أما سورية، فهي «رواندا أوباما» من دون شك. أشياء كثيرة حدثت فيها للمرة الأولى. لعل أهمها أنها المرة الأولى التي يتراجع فيها رئيس أميركي عن «خط أحمر» رسمه ضد نظام استخدام الكيماوي ضد مدنيين من شعبه، والأولى التي تُسلّم فيها إدارة أميركية أوراق اللعبة بالكامل طواعيةً إلى الخصم الروسي الذي بات جيشه موجوداً في الشرق الأوسط كما لم يكن من قبل. كما كانت الأولى التي يتأسس فيها تنظيم إرهابي يتحول تحت أعين ومسامع القوى العظمى إلى دولةٍ متكاملة الأوصاف تحتل أجزاء واسعة من الأراضي تعادل مساحة إرلندا وتؤسس اقتصاداً موازياً بموازنة بليوني دولار.

ولم تكن الصورة أجمل في بقية دول الشرق الأوسط. فعوضاً عن أن يصبح العراق «ولاية أميركية»، نفض أوباما يديه من البلاد التي تحولت إلى محمية إيرانية، وسمح لاحقاً للميليشيات الطائفية المتحالفة مع الحكومة بتزعم القتال ضد تنظيم «داعش» الإرهابي بدلاً من استمالة السكان السنة المحليين، وهو ما زاد من حدة الفجوة المذهبية، في وقتٍ تتحول ميليشيا «الحشد الشعبي» شيئاً فشيئاً إلى نسخة عراقية من الحرس الثوري الإيراني. حتى تركيا، حليفة الأميركيين المدللة، اقتربت خطوة من موسكو وتباعدت خطواتٍ عن واشنطن متهمةً الإدارة الحالية بتسهيل انقلاب 15 تموز.

تصرف أوباما وكأن بإمكانه التخلي عن الثابتتين الراسختين في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط وهما الطاقة وأمن إسرائيل. في الواقع، فإن الذريعتين اللتين تسوقان لتبرير لامبالاته تجاه المنطقة هما في الحقيقة اللتان عمل جاهداً على أن يبخسهما قيمتهما. فحتى مع كون الولايات المتحدة تمتلك احتياطات نفط كبيرة تقلل من اعتمادها على نفط دول الخليج، وهو أمر عائد فحسب إلى اكتشافات نفطية في تكساس منذ عامين، فإن ذلك لا يجب أن يعني بطبيعة الحال صرف النظر عن العلاقات الاستراتيجية معها. فالشرق الأوسط ليس منظومة «مجلس التعاون» فقط… والخليج لم يكن في يومٍ من الأيام مجرد آبار نفط، بل له أهمية تاريخية ودينية وجيو- استراتيجية غير قابلة للتغير. والتحالف مع إيران، التي يحكمها نظام يخلط بين العصبية القومية في عصر الثورة الصناعية والأساطير الدينية في القرون الوسطى، ليس بديلاً مناسباً ويدل على قصر نظر وضحالة في تفسير ماهية وتركيبة المنطقة، بخاصة مع الأخذ بالاعتبار اتهام أصدقاء واشنطن العرب أوباما في مجالسهم السرية بتبنيه «الشيعية السياسية» كبديلٍ عن التحالف مع الدول العربية السنية. أما إسرائيل، فيشعر صناع القرار فيها بمرارة من إهمال أوباما مكانتها وحتى استعدائه الحكومة الحالية، وهو ما دفعها مع معظم دول المنطقة إلى أحضان موسكو بسبب غياب الثقة بواشنطن.

U.S. President Barack Obama walks on the South Lawn of the White House upon his return to Washington, U.S. after visiting flood damage area in Baton Rouge, Louisiana, August 23, 2016. REUTERS/Yuri Gripas

بينما كان بيل كلينتون يقضي أوقاته في الإساءة إلى مكانة البيت الأبيض، كان تنظيم «القاعدة» يتمدد ويعد العدة لعملياته الأكثر وحشية. فالتنظيم اكتسب شهرته وقوته إبان ولايتي الرئيس الديموقراطي السابق الذي رفض حينها عرضاً من الخرطوم بتسليمه زعيمه أسامة بن لادن، المقيم على الأراضي السودانية آنذاك، مقابل رفع العقوبات بعدما اعتبر كلينتون أن الأمر لا يستحق وأن الإرهابي الدولي لا يشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة ومصالحها. هي العبارات نفسها التي يستخدمها أوباما اليوم لتبرير سياسته الانكفائية الرافضة لانخراطٍ أكبر في قضايا الشرق الأوسط ومحاربة الإرهاب الناجم عن خياراته الخاطئة، حيث فوض حل مشاكل المنطقة إلى قواها المتصارعة، ومنها من لا يملك السيطرة على كافة أراضيه، بدلاً من تولي تلك المهام أو على الأقل الإشراف عليها.

لقد تعامل أوباما مع الشرق الأوسط كما ملفات أخرى كثيرة في العالم، بعقلية المحامي، وأحياناً محامي الشيطان، لا السياسي أو رئيس الدولة الأقوى في العالم. في عهده، عادت حركة «طالبان» في أفغانستان بقوة أكبر، وأضحى «حزب الله» لاعباً إقليمياً معترَفاً بدوره دولياً. يترك الرئيس الأميركي شرقاً أوسط غارقاً في الدماء من دون أي أفق لحل أو أمل ومعادياً أكثر من أي وقتٍ مضى للولايات المتحدة، ليبقى إرثه الذي سيلاحقه على الدوام. ومن المؤلم أن صاحب جائزة نوبل للسلام الذي سوّق لعالم بلا نزاعات سيغادر منصبه بإرثٍ ثقيل مكونٍ من أربع حروب في الشرق الأوسط، في سابقة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية. إن الولايات المتحدة في حاجة إلى رئيس يفهم دورها وينشر قيمها في الشرق الأوسط. والحزب الجمهوري، كونه أقرب إلى اليمين المحافظ، قادر من موقعه هذا على تفهم مشاكل المنطقة النابعة في غالبيتها من خلفيات عقائدية، أكثر من الحزب الديموقراطي الذي يقضي رموزه وقتهم بالتفكير إما في قضايا خدمية مثل حماية المستهلك أو تختص بالطبيعة الأم من قبيل كيفية تحويل الجيش الأميركي إلى صديقٍ للبيئة.