كتب ناصر قنديل في “البناء”:
لا يستطيع بنيامين نتنياهو مهما بلغت به المكابرة أن ينكر أن التفاوض المباشر بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحركة حماس والتوصل إلى اتفاق يُفضي لإطلاق سراح الأسير الإسرائيلي الأميركي الكسندر عيدان، نسخة منقحة من التفاوض مع إيران والتفاوض مع أنصار الله، والسعي الحثيث لإنجاز اتفاق مع إيران يحترم خطوطها الحمراء، بينما تحقق النجاح بإنجاز اتفاق مع أنصار الله، وأن كل هذه المفاوضات تجري مع أعداء “إسرائيل” وهي في حالة حرب معهم، من دون التنسيق معها، وتهدف إلى فصل الملفات التي تعني واشنطن عن تشابك ملفات الحرب مع “إسرائيل”، كي تعيد ترسيم موقعها عن بعد مع حروب “إسرائيل”، تزودها بالسلاح والمال وتقدم الدعم السياسي والدبلوماسي، منهية حقبة أميركية صعبة تحركت خلالها الأساطيل إلى البحرين المتوسط والأحمر لتقديم مشاركة نارية في حرب حماية ومساندة “إسرائيل”، بعدما وضعها طوفان الأقصى وجبهات إسناد حركات المقاومة ودعم إيران لها أمام تحديات صعبة.
يجري ذلك بينما يتبادل ترامب ونتنياهو الابتسامات، لكن الأكيد أن ما يجري ليس مفرحاً لنتنياهو الذي يفقد زخم المناخ الذي تولد عن شراكة أميركية كاملة في حروب “إسرائيل” يبدو أنها انتهت أو توشك أن تنتهي. والزخم هنا على ثلاثة مستويات، الأول مستوى إسرائيلي داخلي، كان كافياً لتجميد زخم معاكس للتظاهرات الاحتجاجية ضد حروب نتنياهو طالما أنه يحظى بدعم واشنطن، وها هي تظاهرات ليلة أمس تحشد عشرات الآلاف الإضافيين بمجرد تراجع هذا الزخم، والمستوى الثاني في حسابات الأعداء الذين يدركون الفارق بين مواجهة حرب أميركيّة إسرائيلية ومواجهة حرب إسرائيلية تفقد زخم المشاركة الأميركية، فيزداد إصرارهم وثباتهم باعتبار أنه قد أنتج إخراج أميركا من الحرب، وأن المزيد منه سوف يتكفّل بإسقاط المكابرة الإسرائيلية، والمستوى الثالث هو في وجهة الانخراط الأميركي البديل للشراكة في الحرب، لأن واشنطن ليست طرفاً هامشياً كان يتدخّل ظرفياً في حرب إسرائيلية، بل صاحب سياسات يستبدل سياسة الحرب بسياسة التفاوض، وانتقال الزخم إلى المسارات التفاوضية مع أعداء “إسرائيل” يطلق مناخاً يحاصر “إسرائيل” ويضعفها في الحرب وفي شارعها وفي علاقاتها الخارجيّة.
ما لا يقلّ أهمية عن هذا التموضع الجديد لواشنطن، هو أنّه ليس ناجماً عن رؤية عقائدية أميركية تفترق عن الرؤية الإسرائيلية، بل هو نتاج تموضع فرضته موازين القوى، فقد بدأ ترامب ولايته أشدّ التزاماً بحروب “إسرائيل” ضد حركة حماس والسعي لعزلها، وضد حركة أنصار الله والسعي لتدميرها، بالقياس مع التزام ومشاركة إدارة الرئيس جو بايدن، ولا تزال نظريات ترامب عن تهجير الفلسطينيين من غزة حاضرة، ومثلها استخفافه بحجم وحشية حرب الإبادة الإسرائيلية بحق سكان غزة، وبالمثل تهديداته بفتح أبواب جهنم على حماس، ولاحقاً على أنصار الله وتهديدهم بأن ما ينتظرهم معه ليس شبيهاً بما شهدوه مع سلفه بايدن، حتى زاد عدد الغارات الأميركيّة في شهر ونصف من ولايته عن عدد الغارات التي شنتها إدارة بايدن خلال أكثر من سنة، أما مع إيران فإن مطالبة نتنياهو بتدمير البرنامج النووي الإيراني وتفكيك البرنامج الصاروخي وإيقاف دعم حركات المقاومة ليس إلا تكراراً لمطالب سابقة لترامب، وتراجع ترامب عنها مثل قبوله لشروط إيران التفاوضية مثل الانفتاح التفاوضي مع حماس وأنصار الله لضمان خروج آمن من الانخراط في الحرب الإسرائيلية، عبر الإفراج عن الأسير الأميركي المتبقي في غزة وتأمين عبور السفن الأميركية، كلها نتاج القناعة بأن المضي في الحرب مخاطرة بالتورّط في حرب استنزاف طويلة كلفتها أكبر بكثير من عائداتها المتوقعة، وليست ضرورة بحجم أولويات الاستقرار التي تفرض حضورها على جدول الأعمال الأميركي لضمان الانتعاش الاقتصادي، وفقاً لشعارات ترامب الانتخابية.
الذين استعجلوا وتحدّثوا عن نهاية الحرب، وقالوا إن محور المقاومة انتهى وتفكك، وإن “إسرائيل” ربحت الحرب وأن المصير الأسود ينتظر أطراف المقاومة وإيران في المنطقة، ما لم يقوموا بإعلان الاستسلام وإلقاء السلاح استباقاً، كانوا يرددون سردية إسرائيلية تريد الإسراع بقطاف ثمار خداع بصري يستبق ظهور النتائج النهائية لتداعيات الحرب التي أصابت طرفي الصراع بخسائر، لكن حجم ونوع هذه الخسائر متفاوت بين ما يمكن ترميمه بالنسبة لقوى المقاومة، وما هو وجودي بالنسبة لـ”إسرائيل”، وها هو الفارق يبدأ بالظهور، لأن ما يمنع نتنياهو من مجاراة خيار التفاوض الذي تسلكه واشنطن، هو إدراكه أن زوال التهديد الراهن لقوى المقاومة إذا كان في أساس دعوات قبول وقف الحرب فإن السؤال الوجودي الإسرائيلي لن يسحب من التداول تحت شعار، وهو من يضمن عدم تكرار هذا التهديد بعد سنوات، ما دام سلاح المقاومة وتأييد شعبها معها، بينما خوض حرب حتى إسقاط السلاح يبدو هدفاً فوق طاقة “إسرائيل” وتحمل الداخل الإسرائيلي وجيش الاحتلال واستعداد أميركا؟