Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر February 20, 2020
A A A
تخطّي أزمة الدين العام لا يُمكن أن يمر عبر خفض سعر الليرة
الكاتب: بروفسور جاسم عجاقة - الديار

الدين العام هو مجموع الأموال التي اقترضتها الحكومة اللبنانية نيابة عن الشعب اللبناني. وإذا كانت الحكومات المُتعاقبة قد فقدت السيطرة على الدين العام بحكم العجز المُتراكم وبغياب السياسات الإقتصادية التي تسمح للميزان الأوّلي بتغطية خدمة الدين العام، أصبح الوضع حاليًا على قاب قوسين من إعلان إفلاس لبنان.

المُشكلة الحالية تطال الدين العام بالعملة الأجنبية الذي بدأ في العام 2002 مع التصويت في مجلس النواب على السماح للحكومة بالإقتراض بالعملة الأجنبية بحجّة إرتفاع الدين العام آنذاك إلى مستويات عالية. وبغياب الإنضباط المالي ووجود إنفاق مُفرط، أخذ الدين العام بالعملة الأجنبة يرتفع إلى مستويات أصبح معها الدين العام بالدولار الأميركي 43.486.759.727 دولاراً.

ويأتي إستحقاق شهر آذار من هذا العام ليطرح مُشكلة أكبر وأعمق من مُجرّد سدّ إستحقاق واحد، ليطال سؤالاً أساسيًا وهو كيف ستتمكّن الحكومة من دفع دينها حتى العام 2037؟ سابقًا، كانت الحكومات تستدين في الأسواق المالية عبر إصدار سندات لسدّ الدين المُستحق ودفع الفوائد، أما اليوم فأصبح هذا الأمر شبه مُستحيل مع التخبّط السياسي والتصنيف الإئتماني المُتدنّي للدولة اللبنانية.

ويطرح البعض فكرة خفض سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي عبر إستخدام آلية التضخّم لخفض الدين العام. إلا أن هذا الطرح خطر وفي ما يلي الأسباب.

في دراسة لـ رينهارت (Growth in a Time of Debt-2010)، أظهر الباحث الإقتصادي العلاقة بين النمو، الدين العام والتضخم في الولايات المُتحدة الأميركية منذ العام 1970. وبحسب هذه الدراسة، يلعب التضخم دور المُنظم في أوقات الأزمات ويسمح بإعادة التوازن المالي الذي يُمكن أن يتمّ فقدانه آنيًا لأسباب عديدة. وأظهرت دراسات لبعض الإقتصاديين الأميركيين أن نسبة تضخّم من 5 الى 6% تسمح للولايات المُتحدة الأميركية بتخفيف ثقل دينها العام خصوصًا من ناحية إمتصاص وزن خدمة الدين العام في المالية العامة.

وإذا كان هذا الأمر يتناسب مع الولايات المُتحدة الأميركية، إلا أنه لا يتناسب إطلاقًا مع لبنان بحكم أن الولايات المُتحدة الأميركية تقترض بعملتها أي الدولار الأميركي في حين أن لبنان يقترض بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي. أيضًا هناك بعض القروض التي قامت بها الحكومات اللبنانية بالعملات الأخرى ولو بوزن قليل نسبة إلى الدين العام.

أيضًا، تستقطب بورصة نيويورك أكثر من 60% من إجمالي الإستثمارات العالمية ويعود مُعظمها إلى الأجانب، لذا فإن خفض معدل الفائدة الحقيقية لا يُشكّل تأثيرًا كبيرًا على الأميركيين وبالتالي يسمح بخفض الدين العام الأميركي. يجدر الذكر أن خفض معدل الفائدة الحقيقية وبالتالي الفائدة المدفوعة للمستثمرين الذين هم في أغلبيتهم أجانب عبر زيادة التضخّم، لا يقضي على الدين العام إنما تسارع نسبة التضخم هي التي تسمح بلجم الدين العام عبر عنصر المفاجأة أي عبر خلق تضخم يفوق توقعات المُستثمرين.

أمّا في حالة لبنان فالوضع مُختلف نظرًا إلى أن 84% من الدين العام الإجمالي ممسوك داخليًا وبحدود الـ 70% بالدولار الأميركي، من هذا المُنطلق، سيتحمّل المواطن عبء الدين العام عبر خفض قيمة الليرة اللبنانية وهو ما سيُترجم خفضاً بالقدرة الشرائية وزيادة في نسبة الفقر. أمّا بالنسبة لسندات اليوروبوندز، فإن الدولة ستدفع كلفة إضافية توازي قيمة خفض سعر صرف الليرة اللبنانية (مثلاً إذا تمّ خفض سعر الصرف من 1500 إلى 3000، فإن الكلفة على الدولة ستُصبح مُضاعفة).

آلية خفض الدين العام عبر (تسارع) التضخّم سيؤدّي إلى تحميل الأجيال المُستقبلية نسب تضخّم عالية جدًا أو إعادة إظهار الدين العام إذا ما حاولوا تثبيت الأسعار لاحقاً (التفاصيل في الرسم).

من هذا المنُطلق، نرى أن المسّ بسعر صرف الليرة اللبنانية بهدف إمتصاص الدين العام هو أمر خطر سينتج من تداعيات خطرة للأجيال الحالية (زيادة نسبة الفقر) والأجيال المُستقبلية (تحمليهم نسبة تضخّم هائلة).

الحلول الواجب إعتمادها هي عبر خفض الفوائد على الدين الممسوك داخليًا مما سيسمح للحكومة العتيدة بالقيام بإصلاحات أصبح القاصي والداني يعرفها: وقف الهدر في شركة الكهرباء، الأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد، الإتصالات، التهريب الجمّركي، التهرّب الضريبي، المناقصات العمومية، المؤسسات والمجالس غير المُجدية، خفض حجم القطاع العام… كما يتوجّب إقرار الضريبة التصاعدية التي تُشكّل عنصراً أساسياً في العدالة الإجتماعية التي يُعاني الشعب اللبناني من غيابها.

أيضًا وبالتزامن مع الإصلاحات، تقوم الحكومة بتحفير النمو إلى مستويًات يجب أن تكون أعلى من نسبة الفائدة على الدين العام، مما يُشير إلى بدء السيطرة على الدين العام. هذا التحفيز يجب أن يكون عبر الإستثمارات والقوانين التي يجب إقرارها وتطبيق الموجود منها مثل الشركة بين القطاعين العام والخاص.

ولا يُمكن نسيان الشق الإجتماعي والذي أصبح مُشكلة توازي بتداعياتها المُشكلة المالية، إذ لا يُمكن القبول بوجود أفراد في المجتمع لا يحصلون على السُعيّرات الحرارية اللازمة للعيش بالكرامة الإنسانية. هذا الأمر يفرض تخصيص صندوق في وزارة الشؤون الإجتماعية لمُساعدة المُحتاجين.

إن التأخر في طرح الخطّة الإنقاذية للحكومة اللبنانية، أصبح يُلقي بثقله على الإقتصاد وعلى النقد وعلى المالية العامة. لذا نتطلّع بشدّة إلى اللحظة التي ستُطلق فيها الحكومة اللبنانية خطتها الإنقاذية التي من المفروض أن تُنقذ الشعب اللبناني من الأزمة الحالية بأقل ضرر مُمكن.