Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر September 28, 2021
A A A
تحديد الخسائر “متاهة” قد تُضيع فرصة الوصول إلى صندوق النقد
الكاتب: خالد أبو شقرا - نداء الوطن

إجماع مختلف القوى السياسية على أن “صندوق النقد الدولي” هو الممر الإجباري للخروج من الأزمة، هو الخطوة الأولى التمهيدية. أمّا متابعة المسيرة للوصول إلى خط النهاية فيبقى رهن اتفاق هذه القوى على رأي واحد، ومدى اقتناع “الصندوق” في الدخول في برنامج انقاذي مع لبنان استناداً على الإصلاحات المحققة.

بعيداً من المساعدة المشروطة باصلاح القطاع العام والكهرباء بشكل خاص وبقية المؤسسات العامة، فان تحديد الخسائر والاتفاق عليها يعتبر من الأساسيات لانطلاق المفاوضات مع الصندوق. إلا أن مشكلة الخسائر الكبيرة تتمثل في كيفية احتسابها. فهل مثلاً تسجل سندات “اليوروبوندز” المستحقة في السنوات القادمة ولغاية العام 2037 في خانة الخسائر؟ وهل تحتسب الديون بالليرة اللبنانية أي سندات الخزينة من ضمن الخسائر التي لا يمكن تغطيتها وتخضعها لاقتطاع حتمي Haircut؟ وما هو حجم القروض المتعثرة في القطاع الخاص؟ وهل تؤخذ في الاعتبار الضمانات العقارية وغير العقارية عليها؟ وهل يقبل “صندوق النقد الدولي” تخفيض حجم الخسائر أو عدم احتسابها بقيمتها الحقيقية؟ أم أن التخلف عن سداد الديون يجعلها مستحقة جميعها سواء كانت مجدْولة بالليرة أو الدولار لفترة سنة أو عشرات السنوات؟

 

متاهة تحديد الخسائر

أسئلة كثيرة يرى الباحث الاقتصادي وخبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي أنها “تُدخل المفاوضات في متاهة لا مخرج منها لاستحالة تحديدها وتوحيد وجهات النظر عليها. والغوص بها سيفشل المفاوضات. فالقطاع المصرفي اللبناني هو حامل سندات دين بالدولار باستحقاقات تنتهي في العام 2037، وموظف لدى المركزي أموالاً باستحقاقات لفترة تتراوح بين 7 و10 سنوات إلى الأمام. فكيف يمكن المحاسبة على الخسارة اليوم؟ وكيف للمصارف أن تؤمن مؤونة لدين سيحصل في العام 2037؟ من هنا لا رقم أبيض أو أسود يمكن تحديده وبدء المفاوضات على أساسه”. إلا أنه في المقابل يرى فحيلي أن ما يهم “صندوق النقد الدولي في المفاوضات مع أي دولة مأزومة هو تحقيق شرطين أساسيين: إبعاد “شبح” الوقوع في أزمة اقتصادية نقدية مشابهة بعد فترة وجيزة، وضمان تحسين قدرة الدولة على سداد إلتزاماتها”. وهذان الأمران يتطلبان “توفير موارد مالية كافية لتسديد النفقات. والعمل على عدم تجاوز العجز السنوي في الموازنة نسبة 20 أو 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي”. مع العلم أن رقم العجز لا يكون ثابتاً. ويجري الاتفاق عليه في العادة بحسب ظروف كل دولة على حدة. على أن يتدرج انخفاضاً ليختفي بعد عدد من السنوات بشكل كلي. وهو الأمر الذي يتطلب وضع “خريطة إصلاحات، والإلتزام بها”، يقول فحيلي.

 

إستراتيجية التفاوض

“بقدر التسليم بوقوع خسارة كبيرة فان الدخول في مفاوضات ناجحة يتطلب عدم الخوض في تعقيدات تحديدها”، من وجهة نظر فحيلي. “ذلك أن استراتيجية التفاوض تتطلب الاصلاح أولاً ثم استعادة الثقة ثانياً. وهذان الشرطان يتحققان عقب وضع خطة إعادة تحديد وجدولة الدين العام من قبل الدولة بمباركة من صندوق النقد الدولي. من بعدها يفترض بالبلد بدء مرحلة النهوض وتحقيق النمو الذي بدوره يقود إلى انفراجات على مستوى الاستثمار الخاص في المصارف والقطاعات الانتاجية والخدماتية”. والذي يجب أن يترافق برأيه “مع توظيف الفائض المحقق من الهيركات على السندات بالمشاريع الانتاجية وفي المصارف القادرة على الاستمرار بعد اعادة الهيكلة. ذلك أن أي دعم للمصارف اليوم هو محاولة انقاذ ممكن تكون ملوثة بالسياسة والمذهبية والطائفية وتذهب الأموال هدراً”.

 

الممر الإلزامي

“التسليم بوقوع الخسائر من دون تحديدها وكيفية احتسابها وتوزيعها أمر لا يمكن لـ”صندوق النقد الدولي” القبول به”، بحسب رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية، والمدير السابق في الصندوق الدكتور منير راشد. خصوصا أن “الصندوق كان متشدداً خلال المفاوضات الماضية على هذه النقطة بالتحديد. ومن غير الممكن أن يكون موقفه قد تغير. فجدول الخسائر محدد وواضح وهو يضم الكثير من المكونات، منها بشكل أساسي ما يعرف over draft أو تحويل الدولة الليرة إلى دولار بما لا يقل عن 35 ملياراً. وهنا يواجه الفريق المفاوض اللبناني حلاً من اثنين:

– إما القبول بأرقام الصندوق بعد إعطاء الأخير الجانب اللبناني مهلة لدراسة الأرقام، “في حال لم يكن الفريق اللبناني قد حدد الخسائر”. وعلى سبيل الذكر لا الحصر فان تقديرات الصندوق حول خسائر المركزي كانت في المفاوضات السابقة 171 ألف مليار ليرة أو ما يعادل 120 مليار دولار.

– إما إدخال تعديلات على الأرقام، في حال كانت الارقام المقدمة من الجانب اللبناني فرضية اكثر مما هي حقيقية.

وعليه لا يوقف الصندوق المفاوضات بشكل صارم، إلا إنه يعطي المزيد من الوقت للاتفاق على رقم نهائي يكون أقرب إلى تصوره أو تقديراته. وهذا الاتفاق يجب أن يتبلور بين 4 أطراف رئيسية: مصرف لبنان، الحكومة، المصارف التجارية والقوى السياسية المؤثرة في البرلمان. وبرأي راشد فان “المفاوضات لن تكون بالسلاسة التي يتوقعها البعض. بل هي مسار طويل يتطلب الدخول في تفاصيل التفاصيل سواء كان في القطاع المصرفي أم الكهرباء أم القطاع العام… وغيرها الكثير من القطاعات المحتاجة إلى إعادة هيكلة وتصحيح. وكلما كان هناك اتفاق على الحلول، كلما كانت وتيرة المفاوضات أسرع وإمكانية التوصل إلى اتفاق أكبر.

لغاية اللحظة لم تنظف الساحة من الألغام التي يمكن أن تنفجر في المفاوضات ومنها على سبيل الذكر لا الحصر:

– إصلاح قطاع الطاقة والاتفاق على التعرفة.

– تحديد حجم الخسائر التي سيتحملها المودعون. صحيح أن الهيركات اليوم قد يصل على السحوبات إلى 80 و90 في المئة، إلا أن من لم يسحب من رصيده لم يخسر بعد ورقياً. وفي حال تمّ قرار تحميل هذه الفئة هيركات بنسبة 40 في المئة او أكثر، فهي قد لا تمر مرور الكرام وقد تجابه باحتجاجات شعبية ودعاوى قضائية.

– حسابات الصندوق، وما إذا كان صك العملة يحتسب من ضمن الخسائر المحققة أم لا.

– الخلاف الكبير على توزيع الخسائر. فالصندوق سيحمل المودعين جزءاً كبيراً من الخسائر كما قضت وقتها حسابات حكومة الرئيس حسان دياب ومن خلفها الاستشاري “لازارد”. في حين أن الحكومة الحالية قالت إنها ستضمن حقوق المودعين. بيد أن هذا التعبير “فضفاض” من وجهة نظر راشد. فهل قصد بذلك ما تقره أو تفرضه مؤسسة ضمان الودائع التي لا تعوض أكثر من 75 مليون ليرة؟

– حل المشاكل القانونية مع ودائع غير المقيمين.

راشد يخلص إلى أن واحداً من الحلول المطروحة الأخف ضرراً على المودعين هو “حسم الفرق بين الفوائد المعطاة وبين معدل الفوائد العالمية في وقتها عند الاقتطاع من حسابات المودعين. هذا النوع من “الهيركات” قد يكون أخفّ وطأة من اقتطاع نسبة مئوية من حسابات الجميع.

 

الاقتراض بكفالة المشاريع

فشل الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بسبب العجز عن الاتفاق على تحديد وتوزيع الخسائر، “لا يجب أن يحول دون إمكانية حصول لبنان على تمويل من الجهات والصناديق الدولية”، من وجهة نظر الرئيس التنفيذي لشركة “Advisory and Business Company” علاء غانم. “حيث من الممكن وضع الخسائر المحققة جانباً وأخذ تمويل أو قرض بناء على مشاريع منتجة. على أن تكون الأرض وأصول المشاريع هي الكفالة أو الضمانة على القروض. فلا يعود التمويل المطلوب على صعيد بلد إنما لمشاريع تؤمن عوائد سنوية مرتفعة تغطي ثمن المشروع بعد عدد محدد من السنوات. وبهذه الطريقة يكون لبنان يتخلص تدريجياً من السبب الاول للأزمة المتمثل بالعجز التراكمي في الميزان التجاري. حيث إن المشاريع الانتاجية تعزز الصادارت وتخفف من الواردات. وبحسب غانم فان “الهروب من تحديد الخسائر وتوزيعها بين المودعين والبنوك والدولة لا يعري البلد كلياً ويحفظ بعض الموارد الممكن استغلالها في عملية التعافي والنهوض. وبرأيه فان “الخروج من اقتصاد انحداري بمنحى انكماشي والبدء بمنحى تصاعدي إيجابي يحقق وفراً سيوظف في القطاع المصرفي. ذلك أن ما يعاني منه القطاع المصرفي هو أزمة سيولة وليست ربحية. وستؤدي هذه العملية إلى تكامل مع الدورة الاقتصادية”.

 

بوادر إيجابية

ظاهرتان إيجابيتان تشهدهما الأسواق المالية العالمية من المنتظر أن ينعكسا إيجاباً على لبنان، بحسب غانم، وهما:

– تطلع المصارف الأجنبية للعودة إلى الأسواق اللبنانية. فبعدما سجل خلال السنوات الست الأخيرة خروج كل المصارف الأجنبية وكان آخرها مصرف HSBC، يلاحظ ميل جدي عند المصارف لشراء مصارف لبنانية. الأمر الذي بقدر ما هو فرصة واعدة لكل المستثمرين العالميين لشراء بنك بأقل من 75 في المئة من قيمته الفعلية، فهو يدل من جهة الأخرى على أن لبنان سيبدأ بمرحلة الصعود وبأن مشكلة المصارف هي نقص السيولة.

– تحقيق سندات “اليوروبوندز” اللبنانية أعلى مستوى من الربحية بالمقارنة مع بقية السندات خلال الشهر الماضي بحسب وكالة بلومبيرغ. وعليه كانت هذه السندات الأكثر ارتفاعاً في القيمة بالنسبة المئوية على الرغم من بقاء قيمتها الفعلية متدنية جداً. وهذا دليل على بداية رغبة عند المستثمرين الأجانب الدخول إلى لبنان.

هذه التطورات التي ترافقت مع مشاورات تشكيل الحكومة من الممكن ألا تترجم سريعاً انما هي إشارات إلى أن لبنان عاد إلى رادار الاستثمار مرة جديدة. فقيمة لبنان السوقية أصبحت أقل بكثير من قيمته الفعلية. وهذا بدورة يشجع الاستثمار والنمو إذا ما ترافقت هذه المعطيات مع بداية الاصلاح على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والقضائية وأُحسن استغلالها.