Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر June 11, 2020
A A A
تتلاشى العنصرية عندما يتوقف الكلام عنها
الكاتب: فيرا يمين

هل من مفهوم واحد للعنصرية؟ سؤال يحتمل إجابات وتفسيرات عدة ولكن الإجابة التي تقفز وتتصدّر هي المتعلقة بلون البشرة التي تجيز -بالمعنى السلبي- معاملة الجماعة بشكل مختلف اجتماعياً وقانونياً وأبعد ذلك إنسانياً. جورج فلويد الذي تحوّل إلى رمز ما هو إلا انعكاس لتاريخ من العنصرية تقوى أو تتراجع وفق الظرف أو الحاجة ولكنها لم تغِب يوماً بل هي تتعدّد أشكالاً وسلوكاً وثقافة ونهجاً وأسلوب حياة. والعنصرية هي سبب دائم وأساس من أسباب الفتنة أو الحرب لأنها تتناقض حدّ العداء مع الإنسانية باعتبارها تجيز ولليوم في بعض المجتمعات تجارة البشر بهدف استعبادهم على خلفية لون بشرتهم أو عوزهم. يخطئ من يربط العنصرية فقط بالعرق فهي مرتبطة بالدين، بالثقافة، باللغة، بالاقتصاد، والأسوأ بكل أشكال الطبقية وتتصل بشكل حاد بالتنمر إن لم يكن التنمر من رحمها، إبنا مسخاً لها.
قد نكون نحن في المنطقة أكثر من يعاني كشعوب من العنصرية التي تهدد كياننا ووجودنا وتنال من أدياننا من خلال استيلاد الأصوليات التي من شأنها تفتيتنا لترتاح في المنطقة “اسرائيل” كدولة يهودية عنصرية وهذا أكثر أنواع الفتك خطورة بالشعوب والتاريخ وبالهوية القومية الكفيلة وحدها بأن تكون مظلّة جامعة للشعوب على تنوّع دياناتها وأعراقها وثقافاتها. وفي اللغة تجدنا نحن المحاربين والمدافعين عن لغتنا، لا ندافع عنها من عشق فقط بل لنصون من خلالها هويتنا وتذكرتنا.
من حظّنا أنّ لدينا لغة من الأجمل والأثرى بين اللغات فيما نرى دولاً حضارية مهددة بالانقسامات من منطلق التعاطي العنصري لتعدد اللغات الرسمية فيها على سبيل المثال لا الحصر فنلندا وبلجيكا والمانيا. وعلى قول الكاتب الفرنسي جان مارك بيلي: “هل تصدّق مثلا أن بلداً جميلاً وناجحاً ويعيش رفاهيةً واستقراراً سياسياً واقتصادياً مثل فنلندا يعرف صراعاً وتمزقاً لغوياً مهدِّداً لتماسكه الاجتماعي؟ “. وعلى خلفية اللغتين الرسميتين الفنلندية والسويدية ثمّة عداء عنصري ومتنامٍ وقد يؤسّس لفتنة ما يحدو بالناطقين بالسويدية أن يتحاشوا التحدث بها ويستبدلونها بالإنكليزية كلغة دولية.
أما في ألمانيا فكان هناك في قرون سابقة حالة من “تطهير” من كل اللغات وحصر الأمر بالألمانية حدّ قول لوثر “نسمع ونخاطب الله باللغة الألمانية ولا يمكن أن يحصل ذلك باللغات اللاتينية والاغريقية”، وتطوّر هذا السلوك ليتحوّل الى ثقافة نلمس من خلالها التعصب الذي هو شكل من أشكال العنصرية. أما العنصرية الثقافية فهي الأحدث بين أخواتها لأنها ولدت على ضفاف العنصرية العلمية التي يظنّ البعض أنها اضمحلت فيما هي لا تزال تنجب وتحيا من خلال مولودها.
العنصرية الثقافية تمارس تهميش أو حجب كل الثقافات التي تختلف عنها أو تناقضها أو تعتبرها دونها منزلة، أو تمارس الفوقية لكل طالب جنسية فتخضعه لاختبارات عدة تتنوّع بين العرق واللغة والمرتبة العلمية إلى أمور أخرى ما منح اليهود مساحات من التحرك بحجة الحاجة إلى جذبهم فكان لهم ما أرادوا بموازاة طرح “الاسلاموفوبيا” التي على أساسها يكون التمييز المبرّر والممنهج. العنصرية الاقتصادية، “فتّش عن الاقتصاد” في كل مسألة أو أزمة أو عملية سياسية أو حرب أو فتنة ولأن الشرارة انطلقت اليوم من أميركا مع وفاة جورج فلويد نلفت إلى دراسة إحصائية جرت في ٢٠١٦ أظهرت أن متوسط ثروة الأميركيين من أصول أفريقية تبلغ ١٧ ألف دولار مقابل عشرة أضعاف لدى أصحاب البشرة البيضاء (١٧٠ ألفا) إلى دراسة أخرى في السنوات التالية زادت من الفرق والفروقات.
الحاصل مع الأميركيين من أصول أفريقية ينسحب على الأميركيين من أصول لاتينية وعلى كل الأعراق والإثنيات الأخرى علما أن المجتمع الأميركي مشكّل أساسا من “النازحين” ما يذكّرنا بنغمة العولمة التي لم تعمّر والتي ما كانت لولا حلم أحادية القرار وإلقاء القبض على القبضة الاقتصادية وإلغاء القوميات ومسح الحضارات بنسبة كبيرة. ويجب عدم القفز فوق أمر أساسيّ أنه وحين تحسّن الاقتصاد في عهد ترامب وكل ما رافق ذلك من دعاية حدّ التطبيل استمر فقر طبقة محددة ما يجعلها طبقة جاهزة للانفجار حيال ما تلحظ من تطور اقتصادي لا يطاولها تبعا للونها وعرقها والتظاهرات الحادة إثر مقتل فلويد ترجمة نسبية لهذه الفكرة. وإلى موضوع التنمر الذي كما سبق وأشرت فهو من رحم العنصرية باعتباره أكثر أنواع التمييز أذى بالبعد الإنساني فهو يتضّمن إلى السخرية والتهكم عامل الاستقواء الذي يصل إلى حدّ العنف والإجرام وبعضنا يمارسه مزاحا سمجا أو ادعاء بالطرافة وما نشهده ونشاهده في بعض برامج النقد الفكاهية أو على مواقع التواصل الاجتماعي يدلّل إلى مدى عنصرية مدفونة داخلنا من غير أن نعرفها أو نتعرف إليها مع ادعاء بأننا نرفضها، فيأتي رفضنا لها مبدئيا فيما عمليا نحن مصابون ببعض من شظاياها أو مسكونون بموروثات هي جزء من طبيعتنا وإلا كيف ننتفض لما نسميه كرامة حين الحديث عن ملف اللاجئين أو النازحين، أو كيف نعلن ثورة على “الداخل” إلى مناطقنا باعتباره دخيلا وليس داخلا. أو كيف نفسر التعاطي مع المساعدات في منازلنا باعتبارهنّ خادمات أو “صانعات” بالعامية ومشهدهنّ على الأرصفة ينتظرن الرحيل يدلّل إلى مدى قبحنا الداخلي.
يبقى القول أن العنصرية ليست حكرا على شعب أو نظام أو طبقة أو فرد. وتجربة الرئيس أوباما في الولايات المتحدة لم تسعف في القضاء على العنصرية. فلون البشرة ليس مقياسا بل المقياس إيمان الفرد الذي قد ينسحب على الجماعة والعكس فروّاد التحرر والحرية من كل الألوان والأطياف والثقافات، والعاملون للعبودية والاستعباد هم أيضا كذلك كل الألوان والأطياف والثقافات. “لا أستطيع أن أتنفس” جملة فلويد تنطبق على شعوب تبدأ في فلسطين المحتلة ولا تنتهي عند أي حدود. وأختم بقول للرائع مورغان فريمان “تنتهي العنصرية عندما نتوقف عن الحديث عنها”.