Beirut weather 17.99 ° C
تاريخ النشر May 16, 2016
A A A
تاريخ بريطانيا في امرأة !
الكاتب: محمد السمّاك - المستقبل

ماذا يعني أن تملك من دون أن تحكم ؟

الملكة اليزابيت أجابت عن هذا السؤال بعد ستين عاماً على العرش البريطاني.

فهي مثلاً ليست مسؤولة عن نهاية الامبراطورية البريطانية التي ما كانت الشمس تغيب عنها. الا انها مسؤولة عن تأصيل وازدهار الديموقراطية البريطانية التي اصبحت مثلاً يحتذى.

لم تقف الملكة في وجه التغيير ولم تعترض عليه. فقد تقبلت بواقعية تحوّل بريطانيا من دولة استعمارية كبرى، الى مجرد عضو في مجموعة دول الكومنولث. وهو تحول عقائدي وليس تحولاً سياسياً فقط. ذلك ان بريطانيا تحولت من حاكم عنصري لمجموعة كبيرة من الشعوب في آسيا وافريقيا، الى عضو في أسرة واحدة تضم كل هذه الشعوب.

وعندما استقلت غانا في عام 1961، قامت الملكة بزيارتها للتهنئة والمباركة. وذهبت في ذلك الى حد مراقصة الرئيس كوامي نيكروما، الأمر الذي أثار يومها غضب السلطة العنصرية الحاكمة في جنوب افريقيا.. وحتى غضب بعض أعضاء الحكومة البريطانية أيضاً. إذ كيف تراقص ملكة بريطانيا البيضاء، رئيساً افريقياً أسود؟ مع ذلك فإن هذا التحول انتقل من أراضي الامبراطورية السابقة الى بريطانيا ذاتها، التي أصبحت الآن أكثر تعددية عنصرياً ودينياً مما كانت عليه في أي وقت مضى من تاريخها الطويل.

عاصرت الملكة اليزابيت طوال الستين عاماً على العرش، 13 رئيس حكومة بريطاني. وخلال هذه الفترة تداول على البيت الأبيض في واشنطن، 12 رئيساً أميركياً. وتداول على السدة البابوية في الفاتيكان ستة بابوات، من دون أن يرتفع صوت واحد في لندن يقول للملكة: الى متى؟

اعتلت اليزابيت العرش ولم تتولّ السلطة بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية. فعاشت الحرب الباردة بأخطارها وتوتراتها.. وعاشت كذلك الحرب الكورية، ثم الحرب الفيتنامية، وشهدت انهيار الاتحاد السوفياتي وتمزقه. ومن ثم سقوط جدار برلين واستعادة ألمانيا لوحدتها القومية. كما شهدت قيام الاتحاد الأوروبي وولادة اليورو. وتعاونت مع أول امرأة رئيسةً للحكومة (مارغريت ثاتشر)، رغم انها قادت بريطانيا لأول حرب بعد الحرب العالمية الثانية ضد الأرجنتين بشأن جزر الفوكلاند.

لم تكن الملكة على وفاق مع ثاتشر، ولكنها كانت تحترم سلطتها وتلتزم بها. كانت الملكة مثلاً تؤيد فرض العقوبات على جنوب افريقيا بسبب سياستها العنصرية، الا ان ثاتشر كانت تعارض ذلك، ولأنها كانت صاحبة السلطة والقرار، فقد كان لها ما أرادت. وكانت الملكة تعارض انضمام جنوب افريقيا العنصرية الى الكومنولث الى ان تتخلى عن سياستها العنصرية، وهو ما حدث بالفعل في التسعينات من القرن الماضي. وعندما انتخب نيلسون مانديلا رئيساً في العام 1994 بعد اطلاق سراحه من السجن، قامت الملكة اليزابيت بزيارة رسمية الى جنوب افريقيا، وهو ما أزعج ثاتشر وأغضبها. ولكن ثاتشر عزلت تماماً بعد إصابتها بمرض ألزهايمر (فقدان الذاكرة) وبعد أن ردت الى أرذل العمر «لكي لا تعلم من بعد علم شيئاً«. فيما انتصبت الملكة أثناء الاحتفالات مثل أنثى الطاووس. أما الحرب الثانية التي خاضتها بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية فكانت ضد العراق بقيادة رئيس الحكومة الأسبق طوني بلير، ولو ان دورها في تلك الحرب كان دوراً ثانوياً وتحت المظلة الأميركية.

وتعايش الملكة الآن ظاهرة خروج المارد الصيني من القمقم. وفي مطلع عهدها قال أحد وزراء الاقتصاد في بريطانيا: «لو ان كل صيني يطوّل قميصه بضعة سنتيمترات فقط، فان ذلك سيكون كافياً لتشغيل مصانع النسيج في يوركشاير على مدى الساعة«. ولكن الملكة اليزابيت ربما تكون خلال الاحتفال بيوبيلها الذهبي، وفي عيد ميلادها التسعين، قد لبست ثياباً من قماش مصنوع في الصين!! وعلى كل حال فان الملابس الداخلية للرجال والنساء المصنوعة في الصين، تغزو كل الأسواق الأوروبية، بما فيها الأسواق البريطانية.

احتلت بريطانيا مصر بعد ونتيجة – اخراجها بالقوة العسكرية من الولايات المتحدة. كانت بريطانيا تعتمد على القطن الأميركي لتشغيل مصانعها في يوركشاير، ولكن بانتصار الأميركيين في حرب التحرير والاستقلال، خسرت بريطانيا مستعمراتها الأميركية التي كانت تنتج القطن. وعوّضت عن هذه الخسارة باحتلال مصر لتحويلها الى مزرعة للقطن. وكانت أول مستعمرة بريطانية استيطانية في العالم الجديد قد اقيمت في فيرجينيا، وذلك قبل 405 سنوات.

وفي عام 2007 وبمناسبة مرور 400 سنة على اقامة المستعمرة، قامت الملكة اليزابيت الثانية بزيارة مجاملة ملكية الى فرجينيا.. ولكنها لم تقم بزيارة لمصر التي عصرها الاستعمار البريطاني لعقود طويلة. وحتى بعد العدوان الثلاثي الذي قادته بريطانيا مع فرنسا واسرائيل في العام 1956، لم يصدر عنها اي موقف اعتذاري مباشر أو غير مباشر، كالموقف الذي اتخذته من الرئيس مانديلا وجنوب افريقيا. وذلك على الرغم من ان الوثائق البريطانية الرسمية تؤكد الآن ان رئيس حكومتها انطوني إيدن اتخذ قرار الحرب على مصر رداً على تأميم القناة – منفرداً وتحت ضغط صحي إذ كان يتناول أدوية ومنبهات تعطل قدرته على اتخاذ القرارات.

لقد اعتلت الملكة اليزابيت العرش في الوقت الذي بدأت شمس الامبراطورية البريطانية بالأفول. خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة ولكن مهمشة. ولكن الملكية بقيت وحدها رمزاً حياً للماضي التليد. وعندما احتفل البريطانيون بيوبيلها الذهبي وبذكرى ميلاها التسعين فانهم كانوا في الواقع يحاولون احياء هذا الماضي والتغني به على طريقتهم الاحتفالية. ولكن مما لا شك فيه ان سلوك الملكة اليزابيت واحترامها لمعادلة المُلك من دون سلطة، يساعد على المحافظة على صورة الماضي الجميلة. فكم من مرة اضطرت الملكة الى بيع بعض مقتنياتها من التحف والممتلكات الشخصية من أجل تغطية التزاماتها الادارية والشخصية والتي ما كانت موازنة الدولة المخصصة لها تكفي لتغطيتها. وكم من مرة اضطرت الى اتباع سياسة التقشف والى تسريح موظفين يعملون لديها من أجل تخفيف الضائقة المالية التي كانت تعاني منها.. اما معاناتها الكبيرة فتقع في مكان آخر، وتحديداً في اسكوتلاندة التي تتطلع الى الانفصال.

في المتحف الوطني الإسكوتلاندي في مدينة أدنبره، تتصدر مدخل المتحف لوحة نقشت عليها عبارة من وثيقة «أريروث» التي صاغها الإسكوتلانديون في عام 1320. وتقول: «حتى لو لم يبقَ منا سوى مائة شخص فقط، لن نقبل تحت أي ظرف بأن نخضع لحكم الانكليز«.

وعلى مدى ستة عقود من تبووئها العرش، لم تزر الملكة هذا المتحف.. ولكنها تعرف جيداً ما فيه، الا انها تلتزم بفضيلة الصمت المهذب.

لا يعني ذلك ان الملكة اليزابيت الثانية كانت نسيجاً وحدها من حيث الالتزام بالحدود المرسومة لها كملكة لا تشارك في اتخاذ القرارات السياسية وحتى لا تبدي رأياً فيها، فلها أخطاؤها كأي انسان آخر، ومن أبرزها الطريقة الفظة التي اعتمدتها في تعاملها مع قضية مقتل الأميرة ديانا. حتى انها لم تعزّ بها ولم تقبل أن يعزيها أحد!! وهي حتى اليوم لم تغفر لديانا انفصالها عن زوجها ابن الملكة – كما لم تغفر لها علاقتها بدودي الفايد، ابن مواطن مصري مهاجر الى بريطانيا !!

مع ذلك تبقى الملكة اليزابيت رمزاً حياً للملكية البريطانية ولوحدة المملكة المتحدة.. وهي في التسعين من العمر.