Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر September 1, 2020
A A A
بيروت ألف مرّة مندثرة وقد أعيد إحياؤها ألف مرّة…
الكاتب: روني عريجي- النهار

Beyrouth mille fois morte, mille fois revécue
بيروت ألف مرّة مندثرة وقد أعيد إحياؤها ألف مرّة…

(ناديا تويني)
كتب الرحّالة أغاتياس حين زار بيروت المنكوبة في العام 565 ق.م. بعد الزلزال العنيف الذي ضربها في حينه: “بيريت، لؤلؤة فينيقيا الأجمل. تهدّمت، زال سحرها ولم يبقَ فيها سوى الخراب”….

كأن زلزالاً جديداً هائلاً ضرب بيروت؛ 4 آب 2020 تاريخ جحيمي يضاف إلى تواريخ نكبات هذه المدينة.

زلزال من الإهمال والتخاذل والبيروقراطية المُجرمة وإساءة استعمال النصوص والصلاحيات، أزهق الأرواح وشوّه الأجساد والنفوس، وقتل الأحلام وسحق بيوتاً وعمارات وأحياء تحولت إلى خرائب أشباح.

نحن اليوم أمام كارثة دمّرت شوارع بأكملها، وتهدّمت بيوت كانت تشكل لؤلؤة تراثية تعود إلى مطالع القرن الماضي، نظراً إلى ما تمثل من جمالات فن العمارة.

من الناحية التراثية، يطرح هذا الواقع الأليم إشكالية قديمة لم تجد حلاً لها إلى اليوم تكمن في حماية التراث العمراني في بيروت خصوصاً وفي لبنان عموماً.

بعد انتهاء الحرب اللبنانية، حصلت طفرة في البناء غابت عنها الخطط التوجيهية التي كان من المفترض أن تجد توازناً ما بين التوسّع المديني الطبيعي من جهة، والحفاظ على المدينة بنسيجها الحيّ الذي يضمّ الأبنية والأماكن وما تحويه من ميّزات معمارية وروابط تاريخية-اجتماعية، كما من أحداث وذكريات من جهةٍ أخرى. كما اتصفت بتقاعس الدولة بكل أجهزتها المعنية عن إيجاد الحلول الفنية والقانونية العادلة لهذه المعضل. تعرّضت الأحياء والمباني ذات الطابع التراثي في بيروت (وغيرها من المناطق اللبنانية) إلى التهديم لتحل مكانها الأبنية الحديثة ومنها الشاهق، مغيِّرةً طابع المدينة التي كانت تتميّز به.

غير أنّ التراث المعماري في هذه المرحلة من تاريخ لبنان المعاصر، لم يكن له، يا للأسف، موقع ولا موضع في المشهد الثقافي، التنظيمي والإداري، ولا كانت هذه المسألة محط اهتمام إلاّ عند قلّة من الخبراء المختصين والمواطنين المهتمين والجمعيات الأهلية المعنية بهذا الشأن.

هكذا، وعلى مرِ عقودٍ، لم تعمد الإدارات الرسمية المعنية (وزارة الأشغال العامة، وزارة الثقافة، التنظيم المُدني، المحافظون ومجالس البلديات) إلى إيجاد الأطر القانونية والفنية الكفيلة حماية الآثار والتراث الحضاري الموجود ضمن المناطق التي تضم مجموعات معمارية تراثية متكاملة توثّق تاريخ هذه المدن وموروثها الثقافي، الحضاري والاجتماعي. أخذت هذه المسألة بعداً اكبر في مدينة بيروت نظراً لما تحويه من أبنية تراثية جميلة وأحياء يغلب فيها نسيج معماري ذو طابع تراثي، فلم تتمّ إعادة النظر في نظام البناء في بعض من هذه الأحياء والمجموعات كما تنصّ عليه القوانين المرعية الإجراء، ووفقاً للأصول والمعايير العالمية المتّبعة بتنظيم المدن أو الأحياء ذات الطابع التاريخي، ووفقاً لما يمليه أيضاً قانون البلديات في المواد 49 و 50 و 51 و74 منه، إضافة إلى قانون البناء في مواده 1 و 2 و 13 (البندين 2 و 3) والمواد 4-7-8-9 من قانون التنظيم المدني. بقي التوجّه الاستثماري هو الأساس في مقاربة هذا الملف، وتمّ الاكتفاء بمواكبة القرارات والإجراءات التي اتخذتها مرحلياً وزارة الثقافة – المديرية العامة للآثار لوقف هدم الأبنية التراثية في العاصمة، وبشكل أقل في مدن أخرى.

حتى السلطة التشريعية نفسها، لم تنجح في سنّ القوانين اللازمة في هذا المضمار، بالرغم من بعض محاولات تشريع خجولة (أهمها مشروع قانون تقدّمت به وزارة الثقافة سنة 2000 واقتراح قانون تقدّم به النائب ياسين جابر) لم تبلغ الخواتيم السعيدة. أمام هذا الواقع عمدت وزارة الثقافة – المديرية العامة للآثار سنة 2016 إلى إعداد مشروع قانون جديد وضعته لجنة فنية علمية وقانونية متخصّصة يأخذ في الاعتبار ما هو وارد في المشروعين المشار إليهما، إضافةً إلى تَضمُنّه مقاربة عملية اكتُسبت خلال الأعوام السابقة، مع محاولة تخفيف اللجوء إلى استصدار مراسيم تطبيقية، قدر الإمكان.

إنّ مشروع القانون هذا يلحظ بشكل رئيسي إعادة تنظيم الأحياء ذات الطابع التراثي عبر إعادة دراسة نِسب الاستثمار فيها، ونقل عوامل الاستثمار لهذه العقارات التي تشكل اليوم عامل ضغط مشجّعاً لهدم هذه الأبنية وتشييد أبراج مكانها، إلى مناطق عقارية أخرى حديثة لا تتضمّن إشكالية تراثية أو غيرها، ممّا يساهم في الحفاظ على الأبنية التراثية ويعوِّض على مالكي العقارات الاستثمارات التي خسروها عند خفض عوامل الاستثمار في المناطق العقارية التي تقع فيها أبنيتهم التراثية، ويوفّر أيضاً على خزينة الدولة التعويض المادي المتوجِّب حالياً على المتضرّرين بموجب قانون الآثار المعمول به حالياً، إضافةً إلى منح المالكين حوافز ضريبية لحثّهم على ترميم هذه الأبنية والحفاظ عليها واستعمالها. وقد أُقرّ مشروع القانون في مجلس الوزراء بعد إدخال بعض التعديلات عليه، ومن ثم أحيل على مجلس النواب حيث لم يُبَتّ إلى اليوم.

بالرغم من كل الصعوبات والضغوط المختلفة، سعت وزارة الثقافة – المديرية العامة للآثار إلى الحدّ قدر الإمكان من هدم الأبنية التراثية والحفاظ على الإرث المعماري والثقافي، وذلك عبر قرارات تجميد هدم الأبنية ذات الطابع التراثي، (قرارات إدارية ذات طابع موقت يُوقِّعها وزير الثقافة، في انتظار صدور قانون حماية الأبنية التراثية)، سمحت بالرغم من نقص الإمكانات اللازمة وفقدان الأساس القانوني الصحيح بالحفاظ على عدد كبير من الأبنية التراثية، لكنها في المقابل دفعت مالكي هذه العقارات إلى التقدّم من مجلس شورى الدولة بطلب إبطال قرارات تجميد الهدم الموقتة الصادرة عن وزارة الثقافة، فتجاوب المجلس مع هذه المراجعات مُبطلاً قرارات التجميد، وذلك إما بإخراج العقار من لائحة الجرد العام للأبنية المجمّد هدمها، أو بشطب إشارة إدخال العقار في لائحة الجرد العام عن الصحيفة العينية أو إبطال قرار وزير الثقافة الرامي إلى عدم الموافقة على هدم البناء.

أمام هذا الواقع، فإن الكارثة الأخيرة – على هولها ومآسيها – يجب أن تشكّل صدمة وطنية تؤدي إلى صحوة لأهمية حماية الأبنية التراثية في مناطق بيروت المدمرة وغيرها من المناطق التي لم يطاولها الانفجار، ولكن أيضاً في المدن والقرى التي تحوي أبنية ذات طابع تراثي.

إن الحفاظ على الأبنية التراثية يجب ألا يطال الشق المعماري فقط، بل يجب أن يكون هدفه أيضاً الحفاظ على النسيج الإنساني الاجتماعي فيها كي لا تفقد هذه المناطق روحها ودورها المُجتمعي.

من هذا المنطلق، نرى: (1) ضرورة الإفادة من الدعم الدولي المالي والفني والمعنوي لإعداد الدراسات التفصيلية واللازمة للحفاظ على الإرث المعماري والثقافي الموجود وإبرازه وتطوير محيطه العمراني بما يتلاءم معه، على أن تتمّ هذه الدراسات بالتعاون مع كل من وزارة الثقافة – المديرية العامة للآثار، وزارة الأشغال العامة – المديرية العامة للتنظيم المدني، وزارة البيئة مجالس البلديات المعنية ومحافظة بيروت في ما يختصّ بهذه المدينة، ليتم على أساسها إصدار المخططات التوجيهية وأنظمة البناء من المرجع المختص بموجب مراسيم تصدر وفقاً للأصول، وإننا نؤيد القرار الذي اتخذه المجلس الأعلى للتنظيم المدني بوضع بعض مناطق العاصمة قيد الدرس؛ (2) ضرورة إقرار مجلس النواب سريعاً قانون حماية المواقع والأبنية التراثية كونه يشكل الحل الأنسب للحفاظ على التراث العمراني والتعويض على مالكي العقارات من دون ترتيب أي عبء مالي على خزينة الدولة اللبنانية، مع إصدار الإدارات المعنية بعد ذلك ومن دون إبطاء للمراسيم التطبيقية؛ (3) التأني في عمليات الإصلاح والترميم للأبنية المتضررة في مدينة بيروت المنكوبة والحفاظ على طابعها التراثي؛ (4) تأهيل معماريين لبنانيين من الشباب على فن العمارة التراثي؛ (5) تنسيق الجهود بين إدارات الدولة المعنية والجمعيات الأهلية المهتمة في ما خصّ إعادة أعمار ما تهدّم في بيروت تفادياً لهدر الجهود والموارد وتحقيقاً للهدف المنشود، وهو إعادة إعمار هذه المدينة العظيمة، التي لعلّها بآلامها وتضحياتها ومحنتها قد تساهم في حماية ما تبقى من تراث هذا الوطن.

وتبقى بيروت بتاريخها وأهلها وأحيائها كلّ المدن، وأجمل ما فيها مهما تغيّر وجهها أنّها “وجه بحّار قديم”.