Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر February 14, 2023
A A A
“بصل… إنسَ اللي حصل…”
الكاتب: راغب جابر - النهار العربي

انشغل اللبنانيون خلال الأيام الماضية بالبصل، نعم بالبصل، قد يبدو الأمر مثيراً للاستغراب لكنها الحقيقة التي عكستها أحاديث الجلسات في البيوت وفي مراكز العمل وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. إنه شر البلية وشر البلية ما يضحك.

لم تعد الكهرباء المقطوعة ولا تسعيرة المولدات الخاصة ولا أسعار المحروقات الحارقة ولا برد شباط (فبراير) القارس ولا أزمة المدارس والجامعات ولا إضراب المصارف وتهديدها السافر بالتوقف التام عن العمل ولا الانسداد السياسي المقفل ولا حتى زلزال تركيا وسوريا الدموي ولا الهزة التي هزت أبدان اللبنانيين وما تبقى من أعصاب، هي ما يقلق اللبنانيين الذين انزلق مستوى معيشتهم الى القعر. البصل نجم الأيام الأخيرة بعدما ارتفعت أسعاره بشكل خيالي.

حتى البصل أبو رائحة ممقوتة بات عزيزاً ممنوعاً على اللبنانيين، البصل الذي يدخل في معظم طبخاتهم “لبس قبعه ولحق رَبعه”، بل سبق كل أقرانه من خضر وإنتاج الأرض من بقول وفاكهة. قفزات هوائية خلال أيام جعلته يتقدم على التفاح والموز والليمون والخيار والبندورة والخس والكوسا… حتى على الكيوي والآفوكا وفواكه أخرى كانت تعتبر من أبناء الست.

لم يكن اللبنانيون يتصورون يوماً أن يتدلل عليهم البصل ويذلهم الى هذا الحد. كأنه أراد أن ينتقم منهم ومن إذلالهم له منذ أن عرفوه. أبو ريحة انتظر طويلاً حتى حانت ساعة الانتقام. كانوا يتجنبونه في لقاءاتهم ويخبئونه كي لا يفسد روائح منازلهم ويلعنونه عند تقطيعه لحدته التي تبكيهم. كان شراً لا بد منه. كانوا يكرهونه رغم حاجتهم الماسة اليه في غذائهم ومعرفتهم بفوائده العظيمة.

أن يصبح البصل شاغل اللبنانيين، فهذه قمة المأساة وقعر القعر. إنها مهزلة المهازل أن يهوي مستوى الحياة في لبنان الى درجة العجز عن شراء البصل الذي هو تاريخياً أرخص مكون غذائي يستخدمه الناس بل حتى جعلوه مضرب مثل. “كول بصل وإنسَ اللي حصل”، “بصل بصل… مهما حصل”، “كلما كبر البصل قلت قيمته”…

يقتصر اللبنانيون كثيراً من المواد الغذائية الأساسية، اللحوم والأسماك والأجبان صارت وجبات مناسباتية، أما الكماليات فأصبحت نسياً منسياً منذ زمن طويل. أطفالهم بلا حلوى ولا مقرمشات وسندويشاتهم المدرسية “عالريحة”، الفواكه بالحبة تقسم على العائلة بالحز.

رمزي جداً ومعبر غلاء البصل، ليس البصل كمالياً في حياة الناس، كان يقال “العشا بصلة” تعبيراً عن الفقر المدقع والحرمان الشديد. حتى البصلة لم تعد في المتناول.
لماذا البصل يرتفع على الكل، من يدلّعه كل هذا الدلع؟

طبعاً، هناك ارتفاع مرتبط بارتفاع سعر الدولار الذي يقفز أيضاً قفزات واسعة في ظل عجز تام للطبقة السياسية والمنظومة المالية والمصرفية، لكنّ هناك أيضاً أسباباً أخرى يجري تداولها، وإلا لماذا البصل يقفز قفزات بهلوانية؟

يقول المتابعون إن السوق اللبناني أُفرغ من كميات كبيرة من البصل المخزن في البرادات والمستودعات. بين ليلة وضحاها طار المخزون، أو خبّئ. شاحنات نقلت الى سوريا لإغاثة المنكوبين في الزلزال، وهذا جزء من تحمل اللبنانيين جميعاً جزءاً من تبعات أهوال الزلزال، لكن الخطير ما يحكى عن تصدير جزء من المخزون الى بلدين عربيين آخرين من أجل تحقيق مكاسب مادية وغير مادية. وهذا إن كان حقيقياً فعلاً فهو قمة انعدام الضمير والحس الإنساني والوطني ويستدعي إجراءات عقابية وهيهات أن يحاسب أحد في لبنان.

كان البصل يُبكي أثناء توافره واستخدامه في مطابخ اللبنانيين، وها هو اليوم يُبكيهم في غيابه بعدما أصبحت ليرتهم “بتسوى قشرة بصلة”.