Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر August 23, 2023
A A A
برّي يتذكّر رفاقه الشّهداء: من البرّ إلى البحر..
الكاتب: حسن الدر - اللواء

في السّماء، من بيروت إلى الجنوب، مسافة حبّ وانتماء، حُبلى بالأماكن والأسماء والأحداث والخطوب.
العاشرة والنّصف صباحًا ارتفعت المروحيّة عن سطح الأرض واتّجهت جنوبًا تقصد منصّة توتال للتّنقيب عن النّفط والغاز احتفاءً بالانجاز التّاريخيّ.

بضع ثوانٍ مضت لتطلّ «الأوزاعي» برؤوس مبانيها الفقيرة، لم يلتفت من في الطّائرة، فقط نبيه برّي التفت وأشار قلبه إلى الطّريق: هناك قضى الرّفاق «داوود ومحمود وحسن»، وتزاحمت الصّور في الذّاكرة المثقلة بالصّعاب والتّحدّيات..
الآخرون يتناولون أطراف الحديث، عن الحفر والتّنقيب والحقل والثّروة الموعودة، وقلب برّي المتخم بالحبّ والتّعب، والكثير من اللّوم والعتب يحفر في عمق السّنين، حيث حقول من حنين، وآبار من دماء الجرحى والشّهداء.
وقبل أن يتمّ تمتمةً خفيّة بادرته «خلدةُ» السّلامَ، تنهّد وتذكّر فتوى القتال يوم تخلّفت بعض العمائم عن واجب الجهاد، لم يجتهد قبالة نصّ الإمام الصّدر: «إذا التقيتم العدوّ الاسرائيلي قاتلوه بأسنانكم وأظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعًا» فقال باسم الصّدر وكلّ شريف وحرّ: «أنا المفتي، وأنا أفتي الآن بأنّ إسرائيل لن تدخل إلى الضّاحية إلّا على أجسادنا وعلى جثثنا» فكان له ما أراد، وكانت خلدة «بدر» المقاومة وأولى معجزاتها!

في الطّائرة رئيس ووزراء آخرون، ولكلّ امرئ منهم شأن يغنيه، أمّا النّبيه فله مع أحواله، الّتي تربو على الثّمانين ولم يسأم تكاليفها، حديث شؤون وشجون، وله مع التّاريخ دهر من الحبّ والحرب والسّياسة والرّئاسة، ورفاق درب قضوا نحبهم في البرّ والبحر ومنهم من ينتظر..
قطعت عاصمة الجنوب وبوّابته حبل ذكريات برّي لبرهة، فقد بدت وادعة هادئة، وهي مسوّرة بقرى شرقها، ومحروسة بسيّدة المنطرة، وصيّادوها يغنّون على لحن معروفهم، والرّفيق الّذي لم يلتئم جرح لبنان مذ غادره.
صار النّبض أعلى، ثمّة سيف لاح في الأفق، حارس قابض على الأمل عند مفرق النّبطيّة وقرى الزّهراني، هذا نصب بلال، الطّير والعريس والحبّ، ورفيق الدّرب الّذي لم يدفن..
بقي مع الأديم كما هو، كمشة يدٍ قبضة نار..
مرّ الوقت سريعًا، لحظات تحتشد فيها آلاف الذّكريات، اقتربت صور، مدينة الإمام موسى الصّدر وغار حرائه، ومسقط قلب الرّئيس نبيه برّي حيث التقى الإمام للمرّة الثّانية بعد لقاء أوّل في تبنين، ومنها كانت بداية طريق النّضال والحياة.
هنا نصب أحمد قصير فاتح عهد الاستشهاديين، وعلى بعد مئات الأمتار مكان استشهاد «أبو زينب».

وهناك، رمى الرّئيس طرفه إلى لأعلى قليلًا، هناك المؤسّسة في البرج الشّمالي، وذاك «حسن مشيمش» يسقي ورد حياضها، و«حسن قصير» يسوّرها بدم طازج لا يبرد، وفي قلبها سلمان الحركة وحمزة العصر «مصطفى شمران»..
وهنالك أمّ القرى، معركة، ونصف الجنوب هنالك، محمّد سعد وخليل جرادي وأخوانهم!
التفت برّي يسارًا، هنا ميناء الصّيادين، وقصص الحبّ والحرب، ومركب ليس ككلّ المراكب يقوده صيّادٌ لا يشبه باقي الصّيادين..
تمتم برّي، وبعد ثوانٍ قليلة فاحت رائحة الموز واللّيمون ورحيق أشلاء حسام الأمين.
تمتم برّي وتمتم، والآخرون غارقون في أحاديث عابرة.
تمرّ لحظات أخرى ثقيلة، ينظر برّي من نافذة الطّائرة، يتراءى أمام قلبه رأس طفلة شهيدة تدلّى من نافذة إسعاف لكشافة الرّسالة الإسلاميّة، وأبٌ مفجوع يحمل جثّة أخرى، هنا مجزرة المنصوري!
تمتم برّي والآخرون غارقون في أحاديث عابرة..
وعلى بعد أمتار قليلة كان فتى في الثانية والعشرين ينام على سرير قلق الصّهاينة بعدما أرّق عيونهم؛ فاغتالوه! «عبد الرضا عبد الرضا» كان ممرًّا طوعيًّا لكلّ مجاهد لأيّ جهة انتمى!
تمتم برّي والآخرون غارقون في أحاديث عابرة.
انعطفت الطّائرة نحو عمق البحر، حيث منصّة الحفر، أشار الآخرون إلى المنصّة بفخر وغبطة، لكنّ قلب برّي كان يشير إلى مركب صيد صغير يقوده أمير فقير.
عاد به الزّمان ستّة وعشرين عامًا إلى الأمام، دمعت عيناه، مثلما دمعت يوم التقاه!
لقد أوصاه هشام بزيادة زنة العبوة المتفجّرة، وضحك، لكنّ الأخ الكبير بكى..
الطّائرة تستعدّ للهبوط فوق المنصّة وعينا برّي معلّقتان بين أزرق البحر وأخضر السّنديان فوق ربى البيّاضة، والقرى العامليّة المعلّقة بين الأرض والسّماء.
لم يكن هشام يعلم بما تحت الماء، كان يرى فوقها عدوًّا غاشمًا يقطع أرزاق الصّيّادين، وقرصانًا يسلب الفقراء حقّهم في التّعب والمغامرة لأجل اللّقمة الحلال، ومغتصبًا لأرض فلسطين وشعبها!
هنا، في البحر، يقول برّي لنفسه، هنا لا خطوط ولا حدود بين لبنان وفلسطين، هنا خطّ واحد معترف به أيديولوجيًّا «خطّ هشام فحص»، خطّ فاصل بين المقاومة والمساومة!
هنا وقّع هشام على صفحة الماء تفاهمًا بين البحر والسّماء..
فبعد أربعة وعشرين عامًا على ارتقائه حلّقت فوق مكان استشهاده مسيّرات المقاومة لتثّبت بقوّة الحقّ ما رسمه بدمه: حقّنا دونه دمنا..
أمّا هناك، في البرّ، يسرّها برّي في نفسه: هناك سماسرة مواقف وتجّار قضايا يحترفون التّشويه والتّضليل والتّعطيل، هناك متسلّقون على أسوار التّاريخ يريدون تزويره وتحويره، يحاولون التّسلّل من بين سطور النّور علّهم يضيئون بقعة في صفحاتهم السّود..
تمتم برّي كثيرًا فوق منصّة الحفر «ترانس أوشن» الّتي أبهرته ضخامتها وفخامتها، ثمّ حمدل وحوقل واسترجع، وقرأ فاتحة الكتاب على روح أمير البحر وأخوانه الشّهداء، عرفانًا بجميلهم وفضلهم علينا!