Beirut weather 18.54 ° C
تاريخ النشر February 16, 2024
A A A
“الوَسَخ على حاله”
الكاتب: رضوان عقيل - النهار

 

قيل الكثير في حضور الرئيس سعد الحريري في ذكرى اغتيال والده رفيق الحريري، وطالبه كثيرون من محبيه ومن الذين لا يلتقون معه بالرجوع الى البلد والعودة عن عزوفه السياسي مع عدم تبدل اي شيء، بل ان الامور زادت خطورة وتعقيدا على اكثر من مستوى. وكان ابلغ ما لخّصه في هذا الخصوص الوزير السابق والصحافي العتيق باسم السبع عند دعوته الحريري الى عدم العودة اليوم، وان “الوسخ” في البلد ما زال موجودا.

ولم يخرج موقف الحريري عن هذه الخلاصة في احاديثه مع زواره ومقابلته السريعة مع قناة “العربية” التي عبّر فيها عن مضمون قراره البقاء بعيدا من الغوص في الوحول اللبنانية، وان الوقت المناسب لم يحن بعد لعودته. ولم يكن المتحمسون في “تيار المستقبل” يتوقعون ان يعود الحريري عن عزوفه جراء جملة من الامور التي تخصّه، فضلا عن ان احوال البلد وازماته المتناسلة لا تشجع الرجل على تبديل رأيه، ولو ان الاقطاب لا يتخلون عن “مخدر” السياسة بسهولة وخصوصا في بلد مثل لبنان حيث الزعامات والمرجعيات الطائفية اقوى من مشروع الدولة المفقودة.

كثيرة هي الاسباب التي تدفع الحريري الى البقاء على خياره عدم العودة حاليا الى العمل السياسي، وان المسائل التي اجبرته على العزوف ما زالت على حالها بل ازدادت تفاقما في اكثر من حقل اقتصادي ومالي ومعيشي، ليلتقي هنا مع خلاصة شقيقه بهاء في بيان للاخير في ذكرى استشهاد والدهما وحديثه عن “الشعب اللبناني المقهور”.

وبعيدا عن حماسة الوفود التي حضرت الى ضريح الحريري وتذكّر محطاته وبصماته على البلد، ثمة مسألة لا تفارق عقل سعد الحريري وسط كل هذه الضغوط: ماذا في اليوم التالي في حال قرر معاودة العمل السياسي، مع ايمانه بعدم وجود دولة نتيجة الانهيارات التي تشهدها اكثر من مؤسسة، وان الامور متجهة نحو مزيد من السوء. وما يعيشه البلد اليوم لم يشهد اخطاره هذه في سنوات الحرب حيث كانت نوافذ للخروج من تلك المآزق بدليل ان ما كانت تفعله اللجنة العربية افعل مما تحاول اجتراحه “اللجنة الخماسية” غير القادرة على احداث خرق حتى الآن في جدران الاستحقاق الرئاسي.

ومع انعدام الحلول وتفاقم المشكلات لا يجد الحريري نفسه مضطرا الى تحريك ماكينته السياسية واعادة النبض الى تياره الذي اتعبته مجموعة من الاخفاقات التي يتحدث عنها كوادره الذين يرون ان مؤسستهم السياسية في حاجة الى ورشة حقيقية مع ضرورة إقدام الحريري على استبعاد عدد من الوجوه من “بيت الوسط” التي ما زالت تشكل حاجزا بين صاحب الدار ومجموعات كبيرة من الرموز السنية وقواعدها في العاصمة والمناطق التي لم تبخل في منح اصواتها للحريري في اكثر من محطة واستحقاق.

وفي خضم الانقسامات الفاقعة بين الكتل النيابية وعدم قدرتها على انتخاب رئيس للجمهورية: ما نفع عودة الحريري من دون وجود رئيس لبلد انهكته الازمات ولا حلول حقيقية لها سوى بعض العلاجات الاولية التي تقوم بها الحكومة لا اكثر. وفي استقبالاته مختلف الافرقاء ومن بينهم “القوات اللبنانية” لم يخفِ الحريري حجم تشاؤمه من تدهور الاوضاع وعدم القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية في ظل المناخات القائمة، وان سياسة التعنت التي تمارسها الكتل لن تؤدي الى اتمام الاستحقاق، وان لا مفر في النهاية في رأيه من توصّل الافرقاء الى تسوية رئاسية. وهو لم يكن في حاجة الى اثبات حضوره الشعبي في الداخل، بل ان كل ما قام به تياره من تحركات وحضور في الشارع هو توجيه رسالة الى الخارج.

وثمة مجرّبون في فريق رئيس الحكومة السابق وصلوا الى اقتناعات تقول نتيجتها ان البرلمان الحالي غير قادر على انتخاب رئيس للبلاد اذا استمرت كتله على هذه المراوحة من هنا وهناك، حيث يبدو اقطاب الموارنة في مكان ما وكأنهم هم لا يريدون انتخاب رئيس اذا لم يكن على طموحات رئيس كل حزب او كتلة في صفوفهم، وان كانوا لا يتحملون وحدهم الغرق في الشغور الرئاسي. وقد تستمر هذه المشهدية القاتلة حتى حلول موعد الانتخابات النيابية المقبلة مع انتظار ما سيحصل من متغيرات في لبنان والمنطقة نتيجة عدوان اسرائيل في قطاع غزة والذي لن تقتصر ارتداداته على الفلسطينيين وحدهم.

في اختصار، ليست الأوضاع مؤاتية لعودة الحريري لا على مستوى السنّة اولا ولا البلد بأكمله، حيث ان الظروف هي الكفيلة بعودته الى المسرح السياسي رغم الدعوات التي تلقاها من مكونه وخارجه لكنها لم تقنع الحريري باستبدال قرار العزوف الذي اتخذه قبل سنتين، مع ملاحظة توجيهه رسالة دافئة الى “حزب الله” عبر فضائية سعودية، مذكرا بربط النزاع الذي ابرمه مع الحزب وقوله ان لا الاخير ولا ايران يريدان حربا مع اسرائيل، وانه لا يريد سلاما معها بل حلوله في المنطقة وكأنه يرحب بالتفاهم الذي توصلت اليه السعودية وايران وما جلبه من ايجابيات على البلدين والاقليم في لحظة تصاعد حمم بركان الارهاب الاسرائيلي.

واذا كان من ايجابية لاطلالته على محطة تعود مرجعيتها السياسية الى المملكة، إلا انه عكس على شاشتها ايضا انه باق في مربع عزوفه، وان “كل شي بوقتو حلو”، لكن يبدو ان الرجل ما زال يتذوق طعم المُر.