Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر April 11, 2025
A A A
الواقع أصدق إنباءً من الخطب
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”

يستطيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يحشد وزراءه ويطرب لسماعهم يكيلون له المديح على عبقريته في قيادة العالم بقدر ما يشاء، لكن ذلك لن يغيّر حقيقة أن على ترامب مواجهة تعقيدات ناجمة عن التعثّر الجدّي الذي يُصيب ركائز الاستراتيجيات التي رسمها لولايته الرئاسية، وأمضى سنوات بقائه خارج الحكم في تحضيرها. والركائز هي ببساطة الثقة بالقدرة على مساومة روسيا على حساب أوروبا وأوكرانيا ضمناً، لضمان تهدئة الجبهة الروسية وربما التوصل إلى تسوية معها، تتيح التفرّغ لمواجهة إيران عسكرياً والصين اقتصادياً، ومن يطلع على السير الشخصية لكل فريق ترامب سوف يفتقد لدى كل هؤلاء إلى اللغة العدائية التي صاغها الرئيس جو بايدن ضد روسيا كعدو أول لأميركا، مقابل فائض حقد وكراهية وعدوانية تجاه إيران والصين.

الركيزة الثانية في خطة ترامب كانت اعتماد الرسوم الجمركيّة كسلاح مواز لسلاح العقوبات المصرفية، بهدف استعادة الشركات الأميركية المهاجرة الى الأسواق الصينية لتعيد بناء إمبراطوريتها داخل أميركا، فتنتعش الصناعة وتزداد فرص العمل ويرتفع الناتج الوطني ويزيد دخل الدولة، ورغم شمولية الرسوم الجمركية لدول العالم للتغطية على الاستهداف المركز على الصين، اضطر ترامب للتراجع عن هذه الشمولية لصالح حصر حربه التجارية بالصين، والقضية ليست البضائع الصينية كما يبدو، بل البضائع الأميركية التي يتم تصنيعها في الصين.

الركيزة الثالثة في خطة ترامب هي إخضاع إيران ودفعها إلى ما وراء الحدود، والإجهاز على حركات المقاومة وتثبيت الهيمنة الإسرائيلية على الشرق الأوسط، عبر تجهيز كيان الاحتلال عسكرياً بكل ما يلزم، ومنحه الحماية العسكرية والتغطية الدبلوماسية إضافة إلى التمويل والتسليح، حيث الخطاب الأميركي متطابق مع خطاب بنيامين نتنياهو في كل شيء، من السيطرة على غزة مهما ارتفع منسوب جرائم الإبادة، وزاد الخطر على حياة الأسرى، إلى إدارة الظهر لفرصة قيام دولة صديقة في لبنان أو في سورية، وإطلاق يد “إسرائيل” سواء بهدف التوسع أوالهيمنة أو السعي إلى صورة نصر ترضي المستوطنين الغاضبين.

في الواقع تواجه ركائز خطة ترامب تعثراً بنيوياً يحول دون الإصرار عليها والمضي بها إلا بطريقة انتحاريّة، فما يجري مع روسيا لم يتجاوز حدود الهدنة الثنائية، لكن اندفاعة مرتقبة نحو إنهاء الحرب في أوكرانيا وإعادة رسم خريطة التوازنات والنفوذ في أوروبا تبدو متعثرة، وقد اضطر ترامب شخصياً لإعلان الإحباط من ذلك، بينما تبدو روسيا بالمقابل أشد تمسكاً بتحالفها مع الصين وإيران وغير مأخوذة بفرضية الانخراط في تفاهمات ثنائية مع أميركا بينما تقرع طبول الحرب على الصين وإيران.

خطة الرسوم الجمركية التي شرح ترامب كثيراً أهدافها لم تعد هي القضية بعدما قالت الأسواق كلمتها، حيث الأرقام أصدق أنباء من الخطب. فالشركات الأميركية المستهدفة بالرسوم هي الشركات التي تنهار أسهمها في بورصة نيويورك وتتسبّب بانخفاض مؤشر البورصة 5% في يوم واحد، بعد تجميد الرسوم وإبقائها على الصين وحدها. والسبب واضح في تقرير نشرته شركة أبل هو أن كلفة تصنيع الأجهزة التي تقوم بتصنيعها في الصين لو قرّرت الانتقال إلى أميركا، هي ثلاثة أضعاف كلفتها في الصين، وأن زيادة 50% على الأسعار بفعل الرسوم الجمركية هي أقل بكثير من زيادة 150% على الأسعار لو انتقلت الشركة إلى أميركا، والمبالغة في الرسوم والمجازفة بالتسعير المرتفع يصيبان المستهلك الأميركي من جهة والقدرة التنافسية في الأسواق العالميّة من جهة أخرى، والسوق يقول إن الخسائر قد تنتهي بحركة إفلاسات في الشركات والمصارف وهي تنذر بأزمة كبرى.

إطلاق اليد الإسرائيلية استنفد كل هوامش المناورة، فالطريق المسدود عسكرياً أمام الاحتلال ناتج عن عجز لا حل له تعانيه قواته البرية، وانقسام كبير في الجبهة الداخلية وضعف في الروح المعنوية للمستوطنين وتراجع ثقتهم بالجيش، ولذلك تستمرّ الحرب بلا أهداف ولا تتقدم، بينما الحرب على إيران فهي مقامرة، ربما تتحول إلى طريق أقصر امتلاك إيران للسلاح النووي، وتتسبّب بإطلاق أزمة اقتصادية عالمية كبرى من باب قطع خطوط الطاقة، وتعرُّض أمن القواعد والمصالح الأميركية و”إسرائيل” لمخاطر جدية.

ربما يجب أن نراقب ما سوف يجري في المفاوضات مع إيران، وأن ندقق في الكلام عن مبادرة جديدة لاتفاق وقف النار في غزة، وأن ننتظر ما سيفعل ترامب في المواجهة مع الصين؟