Beirut weather 17.99 ° C
تاريخ النشر December 23, 2025
A A A
المزايدات الشعبوية تهدر حقوق المودعين
الكاتب: صلاح سلام

كتب صلاح سلام في “اللواء”

في خطوة جريئة تحمل دلالات سياسية ومالية بالغة الأهمية، أقدمت الحكومة على إعداد مشروع قانون لمعالجة الفجوة المالية والبدء بإعادة أموال المودعين، واضعةً بذلك أول حجر فعلي على طريق معالجة واحدة من أخطر الأزمات التي عرفها لبنان في تاريخه الحديث. قد لا يكون هذا المشروع نموذجياً أو مكتملاً من حيث الصياغة أو الآليات، إلا أن قيمته الأساسية تكمن في كونه اعترافاً رسمياً وصريحاً بحقوق المودعين، وإقراراً واضحاً بمسؤولية الدولة عن إيجاد حلول معقولة ومنصفة لأزمة لم يعد ممكناً تجاهلها أو ترحيلها.
أهمية هذا المشروع لا تُقاس فقط بمضمونه القانوني، بل بالتحول الذي يمثله في مقاربة الدولة للانهيار المالي. فبعد سنوات من الإنكار والمماطلة وتبادل الاتهامات بين السلطات السياسية والنقدية والمصرفية، يأتي هذا القانون ليكسر حلقة العجز، ويؤكد أن الخروج من دوامة الانهيارات يبدأ من الإقرار بالخسائر وتوزيعها وفق معايير عادلة وشفافة، بعيداً عن تحميل العبء لطرف واحد، أو للفئات الأضعف و تمييع الحقوق تحت عناوين فضفاضة.
من هنا، تبدو مناقشة هذا المشروع في مجلس الوزراء تمهيداً لإحالته إلى مجلس النواب اختباراً حقيقياً لمدى استعداد القوى السياسية للتعامل مع الأزمة بروح المسؤولية الوطنية، لا بعقلية المزايدات الشعبوية أو الانفعالات الفئوية. فالخطاب التصعيدي الذي يرفع سقوفاً غير واقعية، أو الذي يسعى إلى تسجيل نقاط سياسية على حساب مسار الإصلاح، لا يخدم المودعين ولا يعيد الثقة المفقودة، بل يهدد بإسقاط آخر فرصة متاحة لوقف التدهور المتواصل.
المطلوب اليوم نقاش هادئ وموضوعي ينطلق من حقيقة أن أي حل لن يكون مثالياً أو خالياً من التضحيات، لكن البديل عن الحلول الناقصة هو استمرار الانهيار الشامل وما يحمله من كلفة اجتماعية واقتصادية أشد فداحة. كما أن إدخال التعديلات الضرورية على المشروع يجب أن يتم ضمن إطار واقعي يأخذ في الاعتبار قدرات الدولة والقطاع المصرفي، ويحافظ في الوقت نفسه على مبدأ استعادة الودائع وفق جدول زمني واضح ومعايير عادلة.
ولا يمكن إغفال البُعد الدولي في هذا السياق، إذ إن صندوق النقد الدولي، بثقله المالي والسياسي، لا يعترض على بنود هذا المشروع، ما يمنحه صدقية إضافية ويجعله منسجماً مع المسار الإصلاحي المطلوب لفتح أبواب الدعم الخارجي وإعادة إدماج لبنان في النظام المالي الدولي. تعطيل هذا القانون أو تفريغه من مضمونه تحت ذرائع شعبوية قد يبعث برسالة سلبية إلى المجتمع الدولي، ويقوض أي أمل بالحصول على المساندة اللازمة لإعادة النهوض.
إن معالجة الفجوة المالية ليست شأناً تقنياً فحسب، بل خياراً وطنياً بامتياز. وهي تتطلب شجاعة في القرار، وجرأة في الاعتراف، وحكمة في التشريع. وبين قانون غير مثالي وانهيار دائم، يبدو الخيار واضحاً: مناقشة مسؤولة، وتطوير مدروس، وإقرار سريع يفتح الباب أمام مسار التعافي، ويعيد للمودعين جزءاً من الثقة المفقودة، ويضع البلاد على سكة الخروج التدريجي من مهاوي الإنهيارات.