Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر June 19, 2021
A A A
“المركزي” يغزل “بلبل” الحلول والمواطن “يدوخ”
الكاتب: خالد أبو شقرا - نداء الوطن

إقتراح حاكم مصرف لبنان على وزير الطاقة تخفيض الدعم على البنزين إلى 3900 ليرة، لا يخدم ترشيد الدعم وحماية ما تبقى من دولارات المودعين، إنما يشكّل استكمالاً للإختبارات النقدية التي يجريها “المركزي” على الإقتصاد والمواطنين.

تزامن أزمة البنزين المفتعلة مع صدور التعميم 158 لم يكن مجرد صدفة بريئة. بل إن “المركزي” قد يكون تقصد تقليص فتح الإعتمادات وتنشيف السوق من المواد، لدفع المواطنين “راضين” بأي ارتفاع في سعر صفيحة البنزين مقابل الإنتهاء من ساعات الإصطفاف الطويلة أمام المحطات. ما يدفع باتجاه هذا الإعتقاد هو أن كميات الدولارات التي ستخرج من المركزي لاستيراد البنزين ستكون هي نفسها في حال كان السعر المعتمد 1515 أو 3900 ليرة. إلا أن الفرق سيكون فقط بـ”ابتلاع” مصرف لبنان كمية مضاعفة من الليرة اللبنانية تسهّل عليه تطبيق سياساته. فبعد صدور “التعميم” تحول الهم النقدي إلى كيفية امتصاص فائض الكتلة النقدية الهائلة بالليرة التي ستَنتُج عنه. ذلك أن تقسيم المبلغ الموازي لـ400 دولار، الذي سيُدفع بالعملة الوطنية مناصفة بين “الليرة النقدية” و”البيرة البنكية”، ليس كافياً. فالتعميم سيخلق كتلة نقدية (M1) بقيمة 27 ألف مليار ليرة، ستؤدي في حال إضافتها إلى الكتلة النقدية القائمة المقدرة بـ43 ألف مليار، إلى المزيد من انهيار سعر الصرف وتضخم غير مسبوق. من هنا لم يكن هناك حل أفضل من تخفيض الدعم على البنزين إلى 3900 ليرة وامتصاص نحو 4000 مليار ليرة سنوياً، إذا افترضنا أن حجم الإستيراد السنوي لمادة البنزين مقدر بحوالى 2.6 مليون طن وبقيمة تتراوح بين 900 ألف والمليار دولار.
نقطة ضعف هذه “الهندسة” التي تعتبر بشكل أو بآخر تمهيدية لرفع الدعم، أنها لا تخفف الضغط على المواطنين، ولا تحد من التهريب ولا تحافظ على دولارات المودعين. فزيادة ما بين 12 و15 ألف ليرة على صفيحة البنزين، ووصول سعر الصفيحة إلى حدود 60 ألف ليرة سيرفع أكلاف مختلف السلع والخدمات بنسبة موازية، ولن يوقف التهريب، لأن السعر سيبقى أرخص بكثير من سوريا، وستسبب نفس الضغط على احتياطي العملات الأجنبية، لأن السعر الجديد لا يخفّض الكميات المستوردة. صحيح أن “هذا الإجراء يمتص كمية أكبر من الليرات بـ 2.4 مرة عن السعر الرسمي، إلا أن اقتصار تخفيض الدعم على سلعة واحدة هي البنزين من جهة، و”فلش” سيولة أكبر بكثير لتلبية منصة صيرفة والتعميم 158 من الجهة الثانية.. تجعل من الكتلة الممتصة قليلة نسبياً”، بحسب المستشار المالي د. غسان شماس، و”من الممكن أن تكون إحدى الغايات هي سحب المبالغ النقدية بالليرة من المحطات، وإعادة ضخها على “منصة صيرفة” لتحقيق نوع ما من التوازن”. إلا أن الهدف الأساسي من وارء تخفيض سعر الدعم يبقى من وجهة نظر شماس “تقريب سعر البنزين تدريجياً من سعر السوق للحد من عمليات التهريب. فكلما ارتفع السعر انخفض ربح المهرب، وتقلصت عمليات التهريب”.
بغض النظر عن الهندسات المالية المقصودة، فان رفع سعر صرف استيراد البنزين من نحو 1900 ليرة للدولار الواحد اليوم (90 في المئة مدعومة على 1515 و10 في المئة تدفع بحسب سعر السوق) إلى 3900 ليرة، بعد أقل من شهر على أبعد تقدير سيحمل نتائج وخيمة على المواطنين. خصوصاً إذا أخذنا في الإعتبار انعدام البدائل الجدية والتي في مقدّمها: – عدم نضوج “طبخة” البطاقة التمويلية، وتطلبها ما لا يقل عن 3 أشهر لوضعها موضع التنفيذ. – الإعتماد شبه الكامل للعمال والموظفين على النقل الخاص للوصول إلى أعمالهم. – عدم توفر نقل عام منخفض الكلفة. هذه العوامل إذا ما أضيفت على التوقع باستمرار سعر صرف الدولار بالإرتفاع في الأسواق الداخلية، وإمكانية تخطي سعر برميل النفط العالمي الـ71 دولاراً في ظل التوقع بزيادة العرض والسماح لإيران بالعودة إلى الأسواق العالمية، فان سعر الصفيحة سيرتفع إلى أكثر من 60 ألف ليرة. و”ستزيد الأعباء على الأفراد والمؤسسات العامة والخاصة، المنهكين أساساً من انهيار القدرة الإنتاجية وتراجع الإنتاج والمداخيل”، يقول المشرف على “مرصد الأزمة” د. ناصر ياسين. من هنا “كان يجب الركون أولاً إلى حلول عملية تقي المواطنين شر هذا الرفع غير المنظم للدعم، الذي قد لا يهدأ عند حدود تسديد مصرف لبنان ثمن الإستيراد على 3900 ليرة، بل من الممكن أن يتخطاه إلى معادلة تقوم على تأمين المركزي 70 في المئة على سعر 3900 ليرة و30 في المئة يتحملها المستورد على سعر السوق. أو حتى تحرير السعر بشكل كلي، ووصل سعر الصفيحة إلى 200 ألف ليرة. ومن الحلول العملية التي يجب اتخاذها سريعاً بحسب ياسين قبل ترشيد الدعم:
– عقد نوع من الإتفاق مع اتحادات النقل البري، ودعم كلفة الوقود على سعر تفضيلي لأسطول سيارات الأجرة وحافلات النقل الكبيرة و”الميني باص” المقدر عددها بحوالى 30 ألف آلية. فنحل أزمة السائقين العموميين من جهة، ونؤمن للمواطنين وسيلة نقل مقبولة التكلفة من الجهة الثانية.
– الإتفاق مع القطاعين العام والخاص على تحديد بدل نقل عادل للموظفين والعمال. وهذه مسألة تتطلب بحثاً عميقاً وبشكل تفصيلي، نتيجة تراجع مداخيل الدولة، والتأثير الكبير للإنكماش الإقتصادي على مؤسسات القطاع الخاص.
– إقرار البطاقة التمويلية، بعد رفع الدعم بشكل منظم وتدريجي. والتي يجب أن تلحظ بجزء منها كلفة ارتفاع أسعار المحروقات.
أيام قليلة وسيشهد البلد “تسونامي” غلاء، نظراً للأعباء الإضافية التي سيرتبها ارتفاع سعر صفيحة البنزين على أكلاف نقل الأفراد، السلع والخدمات. أمّا في حال رفع الدعم كلياً ووصول سعر صفيحة البنزين إلى 200 ألف ليرة فان “تأثيرها على الأسعار سيكون مؤلماً جداً بالنسبة للمستهلكين”، من وجهة نظر ياسين”. ذلك أن الزيادة لن تقتصرعلى اضافة كلفة النقل على السلع والمنتجات والخدمات، إنما سيعمد البعض إلى رفع الأسعار بطريقة غير منظمة أو منطقية بحجة ارتفاع سعر البنزين”.
ملء السلطة النقدية فراغ السلطتين التنفيذية والتشريعية، وابتداع ذراعها التنفيذي المتمثل بـ”المركزي” الحلول بشكل فردي، جعل من إدارة الأزمة كمن “يغزل البلبل على الرمال”، حيث أن كل برمة حول نفسنا تغرقنا أكثر وتقطع عن البلد والمواطن النفس وصولاً حتى “الموت”.