Beirut weather 21.41 ° C
تاريخ النشر September 13, 2023
A A A
المركزي غير مطمئنّ: المرحلة خطيرة وإنكار كامل لمخاطرها
الكاتب: سابين عويس - النهار

 

فيما استعجلت حكومة تصريف الأعمال إقرار مشروع موازنة ٢٠٢٤ بسرعة قياسية، وأعلن رئيسها نجيب ميقاتي عن سلسلة إجراءات إصلاحية تعتزم حكومته إنجازها، تزامن هذا النشاط مع وجود بعثة صندوق النقد الدولي في بيروت، ومباشرتها منذ أول من أمس لقاءاتها مع المسؤولين اللبنانيين، وقد استهلتها بلقاء حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري.
بدا هذا النشاط بمثابة توجيه رسالة الى الصندوق عن جدية الحكومة في التعاطي مع الأزمة المالية. وجاء إعلان ميقاتي أن حكومته استمعت الى نصيحة الصندوق بعدم دولرة استيفاء الضرائب كما كان مقترحاً في مشروع الموازنة، ليؤكد أن الحكومة تسعى الى أخذ رضى الصندوق في بعض المكامن على نحو يغطي على التقصير والتخلف عن إنجاز التزامات في مكامن أخرى.

بدا في المقابل أن بعثة الصندوق أعربت عن ارتياحها للسياسة النقدية التي تعتمدها القيادة الجديدة للمركزي والتي تتلاقى مع شروط الصندوق ولا سيما في مجالات الإعداد لتحرير سعر الصرف بعد توحيد الأسعار المتعددة التي سادت طيلة فترة الأزمة وأثرت سلباً على السوق وعلى المودعين بسبب النسبة المرتفعة للاقتطاع من أموالهم، كما في مجال اعتماد شفافية في الإعلان عن ميزانية المركزي وإحصاء الذهب والاحتياطات وتنظيم الحسابات الداخلية بين المركزي ووزارة المال، فضلاً عن إدراج الليرة على منصة بلومبرغ. لكن كل ذلك يبقى ناقصاً ما لم تتحقق السلة المتكاملة للإجراءات الكفيلة بإعادة البلاد على سكة التعافي.

في هذه المرحلة من الأزمة، وأمام العجز الرسمي على المستوى النيابي كما على المستوى الحكومي من التعامل بجدية وجرأة مع الأزمة، بدا المصرف المركزي وحيداً في الواجهة. وقد شكل خروج الحاكم الأسبق وتولي نائبه الأول المسؤولية محطة هامة بالنسبة الى السلطة السياسية العاجزة والمتورطة لوضع منصوري في الواجهة ورمي تبعة الانهيارات المتتالية في وجهه، بحيث يكون كبش الفداء للفشل الرسمي في تحمّل مسؤولية الانهيار. أسهمت مواقف منصوري ونواب الحاكم لجهة التهديد بالاستقالة في تعزيز هذا الهدف، بعدما وضع نواب الحاكم أنفسهم في موقف الضعف والخوف من تحمّل المسؤولية. لكن حصل العكس عندما تولى هؤلاء مسؤولياتهم، فارضين نمطاً جديداً في التعامل مع الدولة على قاعدة سقوف عالية جداً أتاحها قانون النقد والتسليف: وقف تمويل الدولة بأي شكل، ووقف التدخل في سوق القطع.

يدرك المجلس المركزي أن هذه السقوف العالية لن تكون كافية للضغط على الدولة لتغيير سلوكها والبدء بالتعاطي بمسؤولية وجدية أكبر مع المخاطر المحدقة. فالتمويل بالدولار غير متوافر لسد احتياجات الدولة، أو لحماية الليرة.

عكس المركزي سياسته. وبدلاً من أن يتدخل بائعاً الدولارات من أموال المودعين، كما كان يحصل في العقود الأخيرة خلال مرحلة تثبيت سعر الصرف، قرر تجفيف السوق من الليرة، خافضاً بذلك حجم الكتلة النقدية التي تراجعت الى ما بين ٥٩ و٦٠ ألف مليار ليرة. وهي حتماً غير كافية لتغطية جزء يسير من حاجات الاستيراد المستمرة في الارتفاع.

علامَ يعوّل المركزي في هذه السياسة، حيث أوقف تدخله في السوق من دون أن يؤدي ذلك الى تفلت الدولار، بل استمر الاستقرار النقدي على سعر قريب من آخر سعر لمنصة صيرفة، وهل يمكنه الاستمرار فيها وقد أكسبته بعض الوقت منذ تسلم منصوري الحاكمية، أم أن الوقت لم يعد يلعب لمصلحة القيادة الجديدة للمركزي؟

في الأيام القليلة الماضية، لوحظ أن منصوري التقى عدداً من المسؤولين الى جانب اللقاءات الدورية مع رئيس الحكومة. سجل لقاء مع قائد الجيش ومع وزير الصحة، ومشاورات دائمة مع قادة الأجهزة الأمنية، كما سيشارك في اجتماع برئاسة ميقاتي وحضور وزير التربية. كل هذه الاجتماعات والمشاورات تصب في خانة واحدة، وهي الطلب الى منصوري تأمين الدولارات لدفع الرواتب واستيراد الأدوية وتأمين الوقود ومستلزمات المؤسسات الأمنية والعسكرية، إضافة الى المشكلة المستعصية المستجدة: القطاع التربوي، حيث خطر تطيير الموسم الدراسي بات واقعاً!

يقترح منصوري على الدولة أن تفعل ما تفرض على المودعين فعله! أي شراء دولاراتها على سعر السوق لا على السعر الرسمي، وأن تجبي على هذا الأساس! علماً بأن المركزي عاجز عن تلبية تلك الاحتياجات بأكثر من ٥٠ في المئة منها. وهذا يعني عملياً أن على الإدارات أن تخفض نفقاتها وترفع إيراداتها. أما المركزي فاستعاد دوره كمصرف الدولة، بحيث يشتري لها الدولارات من السوق وفق السعر المعروض. هذا الواقع سيتعزز أكثر عند صدور موازنة ٢٠٢٣ وسقوط السعر الرسمي المحدد بـ١٥ ألف ليرة. عندها لن تعود هناك حاجة أو مبرر لتعميم المركزي رقم ١٥١ الذي سيلغيه فور نشر القانون في الجريدة الرسمية.

خطوات كثيرة يلجأ الى اتخاذها المركزي وترمي الى إعادة التوازن الى السوق. هي لن تكون كافية إن لم تقترن بإقرار التشريعات المطلوبة ولا سيما ثلاثة منها، الكابيتال كونترول الذي يعيد تنظيم حركة السحوبات والتحويلات، معالجة الخسائر المالية، وهذا يتطلب جرأة وليس وقتاً، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي لمعرفة ما هي المصارف المؤهلة للاستمرار وتلك التي يفترض تصفيتها تمهيداً لاستعادة العمل المصرفي دورته الطبيعية ودوره في تمويل الاقتصاد. أما التعاميم ولا سيما التعميمان ١٥١و١٥٨ فمصيرهما رهن هذه القوانين، لأن صدور الكابيتال كونترول سيتيح رفع سقف السحوبات الى ألف دولار بدلاً من ٤٠٠ وهذا ما أبلغه منصوري لجمعية المودعين، من دون أي وعود، والـ١٥١ تنتفي مهمته عند صدور الموازنة!
قبل تحقيق ذلك، تمر الأيام محفوفة بالمخاطر، وأولها استحقاق تمويل الرواتب والأدوية والمدارس والقوى العسكرية والأمنية في نهاية أيلول، وبعده في نهاية تشرين، علماً بأن المتوافر من الدولارات حتى الآن لن يكفي لأكثر من نهاية أيلول!