Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر January 21, 2025
A A A
الكتلة النقدية زادت 28.2 تريليون ليرة في 30 يوماً: دفق دولارات الإعمار والريع السياسي
الكاتب: محمد وهبة - الأخبار

 

 

ازدادت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الموضوعة قيد التداول بقيمة 28.2 تريليون ليرة في المدة ما بين 15/12/2024 و15/1/2025، أي على مدى نحو ثلاثين يوماً. وتعادل هذه الزيادة مبلغ 315 مليون دولار وفقاً لسعر صرف يبلغ وسطياً 89500 ليرة مقابل الدولار الواحد. وقد نجمت هذه الزيادة عن تخلّي اللبنانيين عن حمل الدولارات في هذه المدة ربطاً بشعورهم أن الأمور آيلة إلى التحسّن بعد انتهاء الحرب واقتراب انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة جديدة. لكن لم يكن هذا المناخ هو الأساس الذي حفّز التخلّي عن الدولار، بل كانت هناك فكرة أساسية تدور بين حاملي الدولارات من شركات وأفراد، مفادها أنه مع احتمالات أعلى لانفراج سياسي سينخفض سعر الدولار مقابل الليرة إلى ما دون 89500 ليرة، وبالتالي فإن التخلّي عن الدولارات يقلّص مخاطر الاحتفاظ بها، ولا سيما أن الشركات الكبرى لديها استحقاقات ضريبية في مطلع السنة الجارية تسعى إلى تسديدها بأقصى قدر ممكن من الربحية. كما كانت هناك مؤشرات أخرى تشدّ نحو هذا المسار أيضاً من أبرزها أن الفوائد على الليرة اللبنانية كانت على ارتفاع وبلغت 45% بسبب الطلب عليها من مجموعة من المصارف، وقد سبق ذلك ارتفاع في فائدة الانتربنك (الفائدة بين المصارف من يوم ليوم) إلى 150%. كل ذلك جرى تفسيره من قبل الشركات والأفراد على أنه قد ينطوي على انخفاض في سعر الصرف إلى ما دون السعر الذي يستهدفه مصرف لبنان منذ أكثر من سنة، وهو 89500 ليرة مقابل الدولار.

هذا السياق لا يفسّر وحده هذه الزيادة في الكتلة النقدية. فالواقع، أن الزيادة دفعت القيمة التراكمية للنقد المتداول بالليرة إلى مستويات لم تسجّل سابقاً حتى في عزّ الأزمات التي نتجت من الانهيار المصرفي والنقدي. فبحسب الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان، ازداد حجم الكتلة النقدية قيد التداول إلى 84 تريليون ليرة في 15/1/2025، مقارنة مع 65.5 تريليون ليرة في 31/1/2024، ومع 55.8 تريليون ليرة في 15/1/2024، وهذا ما يثير سؤالاً أساسياً عن سلوك مصرف لبنان تجاه الأمر، إذ إنه كان يحافظ طوال الوقت على كتلة نقدية منخفضة لا يمكن أن تنعكس سلباً على سعر الدولار في السوق، أي إن السياسة النقدية المتبعة في مدة تولّي حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، ترمي إلى ضبط سعر الصرف عبر ضبط الكتلة النقدية، وبالتالي فإن ضخّ الليرات في سوق مدولرة تعتمد بشكل أساسي على الاستيراد لتغطية حاجاتها الأساسية والكمالية، يحفّز الطلب على الدولار. لذا، كان مصرف لبنان يتدخّل في السوق بائعاً لليرة عند الطلب، ويمتنع عن أي تدخّل لبيع الدولارات. أتاحت هذه الإجراءات، لمصرف لبنان، تأمين فائض من الدولارات مقابل بيع الليرات في السوق حتى اندلاع الحرب، ثم بعد الحرب تغيّرت بنية العرض والطلب في السوق. ففي هذه المدة، سجّل ضخّ كميات كبيرة من الدولارات سواء من مدخرات الأفراد أو من الفائض التجاري لدى الشركات، إضافة إلى ضخّ من حزب الله لتسديد جزء من التعويضات والترميم وسواها. وإلى جانب ذلك، فإنه مع انتشار الأنباء الإيجابية عن انتخاب الرئيس والانخراط السعودي في مسألة انتخابه وتكليف رئيس الحكومة، سادت شائعات في السوق عن أن كميات أكبر من الضخ الريعي للدولارات ضُخّت في السوق. وبالتالي لاحت فرصة لمصرف لبنان لزيادة ضخّ الليرات مقابل الدولارات. طبعاً كان الجزء الأساسي من الدولارات التي ضُخّت في السوق موّلت عمليات تجارية، فيما صبّ الجزء الآخر في احتياطات مصرف لبنان الحرّة.

عملياً، لا يتعلق الأمر بنجاح السياسة النقدية، لأنها سياسة محافظة لم يكن لديها أهداف توسعية للتعامل مع كل أشكال التحرّك في السوق، أي إنه لم يكن لديها المرونة الكافية للتعامل مع العرض والطلب في السوق، بل كانت تتعامل حصراً مع جانب واحد لتأمين «استقرار ما» لسعر الليرة تجاه الدولار. لكن أتت ظروف ما بعد الحرب لتشكّل عنصر تعزيز لهذه السياسة. وفي المحصّلة تمكّن مصرف لبنان من جمع قسم من أموال الأفراد والشركات والأموال التي ضخّها حزب الله، ومن أموال الريع السياسي التي ضخّت من قبل أطراف أجنبية، وقد بلغت حصيلة هذه الأموال نحو 315 مليون دولار في شهر واحد. هذه الحصيلة ليست أكثر من مؤشّر رغم إمكانية تفسيرها بطرق أكثر غموضاً مثل ربطها بوجود فائض في ميزان المدفوعات، أو حتى مثل التحسّن في المناخ السياسي، أو سواها. الأساس في هذا الأمر، أن هذه الطريقة في إدارة السياسة النقدية بالاتّكال على السياسة المالية، لا تنتج سوى «الآلة» التي سبق أن انفجرت بوجه اللبنانيين في عام 2019. فهم كانوا يعتمدون على مصدرين أساسيين لتمويل استيرادهم المتزايد: التدفقات الآتية من الخارج على شكل استثمارات في المصارف (الودائع التي جرى ترغيبها بأسعار الفائدة وبالاستقرار الوهمي في سعر الصرف)، أو على شكل ريع سياسي لتمويل هذه الجهة أو تلك. طارت الودائع في لحظة الانفجار، ولم يبق من الريع السياسي إلا القليل. الآن يعود الريع السياسي بوتيرة منخفضة ربما تزداد مع الأيام المقبلة، ومع انتعاش مصارف «الزمبي» واستدعائها إلى الحياة مجدداً ستعود التدفقات، وفي المقابل لبنان سيبقى كما هو يعيش على المال الآتي من الخارج، بل أي قدرات إنتاجية محلية يتكئ عليها الاستهلاك.