Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر December 12, 2022
A A A
الفجوة المالية بالأرقام: “اليوروبوندز” لتمويل الدَّين وفوائده حصراً
الكاتب: سلوى بعلبكي - النهار

الفجوة المالية التي تقدّرها الحكومة بما لا يقل عن 70 مليار دولار، لا تزال تشغل بال اللبنانيين عموما وتربك نقاشاتهم اليومية، كما حجم الخسائر التي نجمت عن سياسة الدعم المفرطة من الدولة لمؤسسة كهرباء لبنان على مدى عقود. هذه السياسة وغيرها من سياسات الإنفاق غير المدروس للدولة اللبنانية أدت في ما أدت الى قصم ظهر الاحتياطات بالعملات الصعبة وأنشأت فجوة واسعة في احتياطات مصرف لبنان وساهمت بانهيار سعر صرف الليرة ووضع اللبنانيين في حال من الفقر والعوز، وافتقاد مريع لمستوى المعيشة اللائق نسبيا، كما تسببت بهجرة رؤوس الاموال وانحسار كبير للطبقة الوسطى التي كانت عماد المجتمع اللبناني. وعلى رغم كل ما أفرزته سياسة الدعم وعدم الاصلاح في القطاع العام، لا يزال تعيين الهيئة الناظمة للكهرباء، وهو ابسط الامور، متعذرا.

هذه المصاريف الطائلة التي كانت تبذّرها الدولة هدرا وفسادا لم تكن إلا على حساب افراغ خزائن مصرف لبنان من العملات الصعبة، فيما اصدارات الدولة باليوروبوندز التي كانت تصدرها بحجة تمويل نفقاتها بالدولار والتي قُدرت بأكثر من 36 مليار دولار بين الاعوام 2010 و2020 لم تكن كافية بتاتا لتمويل مصاريف الدولة بالدولار الاميركي ومن ضمنها الديون السابقة المستحقة وفوائدها. هذا الواقع، أجبر مصرف لبنان على استخدام احتياطاته لسد عجز الكهرباء وتقطيع المراحل والوقت بما ساهم في اتساع الفجوة الدولارية في احتياطاته والتعجيل في مسار السقوط والانهيار، ويبدو ذلك واضحا من الارقام الرسمية التي حصلت عليها “النهار” من وزارة المال، إذ يتبين أن قيمة مجموع اليوروبوندز (السندات بالدولار الاميركي) التي اصدرتها الدولة منذ بداية العام 2010 ولغاية بداية آذار 2020 بلغت نحو 36.3 مليار دولار. اما مجموع ما سددته من أصل وفوائد اليوروبوندز استحقت في الفترة عينها اي منذ 2010 ولغاية آذار 2020، فيبلغ اكثر من 38.7 مليار دولار موزعة بين 22.5 مليار دولار كأصل دين، و16.2 مليار دولار فوائد. ماذا يعني ذلك؟ يعني ان سندات اليوروبوندز التي اصدرتها الدولة منذ 2010 ولغاية بداية آذار 2020 (قبل اعلان التوقف عن الدفع) لم تكن كافية لتمويل اليوروبوندز وفوائدها المستحقة في تلك الفترة، فيما بلغ العجز في اصدارات اليوروبوندز اكثر من 2.5 ملياري دولار. وبشكل واضح وبسيط، فإن كل ما استدانته الدولة منذ عام 2010 ولغاية اذار 2020 بالدولار “الفريش” كان حصراً لتغطية ديون سابقة مستحقة على الدولة اللبنانية، ولم يكن يُستخدم اي دولار مما استدانته لتمويل حاجاتها الخارجية، لا سيما الفيول اويل والغاز للكهرباء والنفط والدعم ومصاريف الدولة الخارجية.

لذلك، وهنا الاهم، فان سندات اليوروبوندز التي تم اصدارها منذ 2010 ولغاية 2019 لم تُستخدم لتمويل الكهرباء والطاقة والدعم والاستيراد ومصاريف الدولة الخارجية الاخرى وحاجات القوى الامنية والعسكرية، بل لتسديد ديون استحقت في تلك الفترة. وهذا يفسر بوضوح، وفق مصادر متابعة، أن مصرف لبنان هو من قام بتمويل قطاع الطاقة والكهرباء والدعم على المحروقات والسلع والادوية، بموجب الموازنات وسلف الخزينة والقوانين الملزمة. وهنا يبرز موضوع الفجوة المالية او الخسائر التي تكبدتها الدولة، وتم تغطية جزء كبير منها من مصرف لبنان، وهي اصبحت معروفة بالفجوة المالية المقدرة بـ 70 مليار دولار.

واستنادا الى الاحصاءات الرسمية لوزارة المال، يتبين ايضا ان مجموع ما تم انفاقه لتمويل الفيول اويل والغاز لمصلحة كهرباء لبنان في الفترة الممتدة من 2010 ولغاية نهاية العام 2020 هو 17.3 مليار دولار (عبر اعتمادات مستندية)، اما بعد اضافة كلفة الصيانة والتحاويل المباشرة فيصبح المبلغ نحو 20 مليار دولار، أي بمعدل ملياري دولار “فريش” سنويا. (استخدام كلمة فريش هو للدلالة على ان هذه الاموال تم دفعها وتحويلها للخارج).

أما السؤال… في حال لم تكن سندات اليوروبوندز تموّل الكهرباء والطاقة وغيرها من مصاريف الدولة، فمن كان يوفر الدولارات لتأمين تمويل الدولة بـ”الفريش” دولار؟ الجواب الواضح والمنطقي، وفق المصادر عينها، هو ان مصرف لبنان كان يؤمّن هذا التمويل وذلك وفقا للقوانين وبهدف استمرارية المرافق العامة. وتبين احصاءات مصرف لبنان وارقامه، التي سبق لحاكم مصرف لبنان ان تناولها في اكثر من لقاء صحافي، ‎ان مجموع نفقات الدولة الخارجية بالدولار الاميركي منذ العام 2010 ولغاية نهاية العام 2021 بلغت نحو 50 مليار دولار “فريش” تم تسديدها للخارج من مصرف لبنان وبشكل كامل، وذلك عبر قوانين او سلفات خزينة او قرارات صادرة عن الحكومة موزعة كالآتي:

– 20 مليار دولار تقريبا لمصلحة كهرباء لبنان (فيول وغاز اويل وصيانة وبواخر).

– 5.5 مليارات دولار تقريبا لمصلحة وزارة الطاقة (مستقل عن تمويل الكهرباء البالغ 20 مليار دولار خلال هذه الفترة).

– 8 مليارات دولار تقريبا لدعم السلع، لا سيما المحروقات والادوية والقمح (عامي 2020 و2021 فقط).

– 9 مليارات دولار تقريبا مصاريف اخرى متنوعة (ذخائر وقطع غيار للقوى العسكرية، ايجارات السفارات اللبنانية في الخارج، اشتراك لبنان في المنظمات الدولية، مشاركة لبنان في المؤتمرات الدولية، نفقات سفر وفود لبنانية الى الخارج…).

– 7.5 مليارات دولار تقريبا كصافي سندات يوروبوندز (شراء 5 مليارات دولار سندات يوروبوندز مباشرة من قِبل مصرف لبنان وتمويل عجز اليوروبوندز البالغ 2.5 ملياري دولار والمذكور اعلاه).

إذاً، مجموع ما ذُكر اعلاه والذي يبلغ نحو 50 مليار دولار “فريش”، هو ما دفعه مصرف لبنان في الفترة الممتدة من بداية العام 2010 ولغاية نهاية العام 2021، ولم يكن لدى خزينة الدولة أي دولار منها كون سندات اليوروبوندز استُخدمت لتمويل ديون سابقة بالدولار، ولم يكن يوجد أي فائض لتمويل حاجات الدولة بالدولار الاميركي. وبعد اضافة الفوائد التي كان يمكن تحقيقها في حال تم استثمار هذا المبلغ يصبح المجموع الذي تحمّله مصرف لبنان 62 مليار دولار “فريش”. كل هذا الإنفاق الخارجي (بالدولار “الفريش”) للدولة قام بتغطيته مصرف لبنان، علما أنه لا يتوافر للدولة اي مدخول يُذكر من “الفريش” الدولار، فيما مصرف لبنان لا يطبع دولارا اميركيا، وكل ما يمكنه القيام به هو طباعة الليرة في حدود معيّنة فقط.

وفيما تحدث البعض انه كان للدولة مدخول بالدولار الاميركي من القطاع الخليوي وهذا صحيح، ولكن ما كان يحصل ان شركات الخليوي كانت تصدر فواتير بالدولار وتتقاضى بعضها بالعملة اللبنانية على سعر 1500 ليرة، وبعض مستخدمي الخليوي كانوا يوطّنون فواتيرهم في حساباتهم بالعملة اللبنانية. أما الفائض المحقق بالدولار عبر قطاع الخليوي فكان يُصرف ويستخدم لدفع مستحقات شركات الاتصالات والانترنت بالدولار، والجزء الآخر كانت تستعمله الدولة اللبنانية لتسديد مستحقات شركات ازالة النفايات مثل “سوكلين”، ولاحقا “خوري وشركاه” و”رامكو” و”سيتي بلو” وغيرها التي تقاضت مستحقاتها من الدولة بالدولار الاميركي، وأخيرا بالدولار الاميركي المحلي. بما يعني أن من أمّن تمويل نفقات الدولة الخارجية خلال الفترة 2010 الى 2021 هو مصرف لبنان.

يضاف الى ذلك، ان الحسابات المالية للدولة بينت وجود 27 مليار دولار غير معروفة وجهة انفاقها، وهي قيد التحقيق لدى ديوان المحاسبة ولا يزال الملف من دون محاسبة، ويوجد ايضا ملف يتحدث عن ضياع 6 مليارات دولار من وزارة الاتصالات وهو قيد المناقشة لدى مجلس النواب.
يُستخلص من الارقام، ان الدولة انفقت أكثر بكثير من دخلها، وذلك عبر الاستدانة من الداخل والخارج وبموجب قوانين سمحت باصدار يوروبوندز وفرضت تمويل الكهرباء مباشرة وعبر سلف خزينة، او بقرارات حكومية كاعطاء الدعم للسلع والمحروقات والادوية. فالدولة شأنها شأن اي فرد، اذا انفق اكثر من مدخوله وبشكل دائم ومستمر سيصل الى الهاوية، وتاليا فإنه على رغم الانذارات الدولية والمحلية بضرورة الاصلاح استمر مسلسل الهدر بما أوصلها الى حال عجز وافلاس، مع الاخذ في الاعتبار ان إعلان التوقف عن الدفع كان في غير محله ومن دون حوار مع الدائنين.

في الخلاصة، ان الازمة المالية وأموال المودعين هي مسؤولية الدولة ومصرف لبنان والمصارف، وحل المشكلة يبدأ باقرار الدولة بمسؤوليتها، لا سيما انفاقها الكبير وعجز الموازنات المستمر وعدم قيامها بالاصلاح المطلوب، تضاف اليها مشكلة النازحين السوريين التي فاقمت الازمة. ومع كل ذلك، تبقى الحلول متوافرة وممكنة، ولا بد من تدقيق جنائي في الكهرباء وغيرها، فيما التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، لا سيما صندوق النقد والبنك الدوليين، ضرورة أساسية للخروج من الازمة.