Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر January 24, 2017
A A A
الغموض يلفّ سياسة ترامب في الشرق الأوسط
الكاتب: نزار عبدالقادر - الحياة

شكل الشرق الأوسط حقل التجارب الأصعب والأكثر تعقيداً لسياسة باراك أوباما الخارجية، والتي فشلت في حل أو إدارة مختلف الأزمات التي تفجّرت في المنطقة خلال السنوات الست الماضية.
ورث أوباما عن إدارة جورج دبليو بوش التورُّط العسكري الأميركي الناتج من حربين في أفغانستان والعراق. وفي ذلك الوقت واجهت الولايات المتحدة اعتباراً من 2008 أزمة اقتصادية حادة وعميقة، لم تشهد مثلها منذ «الكساد الكبير» في ثلاثينات القرن الماضي.

كان أوباما وضع في رأس أولويات إدارته ضرورة معالجة الأزمة الاقتصادية الداخلية وذلك على حساب السياسة الخارجية، بالتالي على حساب التزامات أميركا كقوة عظمى «وحيدة في العالم» مع كل ما يترتب على هذا الدور من مسؤوليات سياسية وعسكرية. دفع هذا الخيار أوباما إلى استعجال قرار سحب القوات الأميركية من العراق في نهاية عام 2011 وفي ذلك الوقت تفجّرت ثورات «الربيع العربي» وتحوّلت في غياب دور القوة العظمى الراعية للسلم والاستقرار إلى حروب داخلية مدمّرة وهي مرشحة للاستمرار لسنوات مقبلة.

كان أوباما بقراره سحب القوات الأميركية من العراق، قبل استتباب الأمور سياسياً وأمنياً، ترك العراق أرضاً سائبة، وهذا ما سمح لإيران، باستغلال الفراغ لفرض نفوذها على الأرض وفي المجتمع السياسي العراقي، بالتالي دفع البلاد نحو مزيد من الانقسامات السياسية والدينية والثقافية والإثنية. شجّع هذا الوضع الجديد على إعادة تشكيل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام واندفاعه لاحتلال مساحات واسعة من العراق وسورية.

هذه الأزمات التي تعصف في منطقة الشرق الأوسط، والتي فشلت «عقيدة أوباما» في حل أو احتواء أي منها، تشكّل تحدياً كبيراً للإدارة الأميركية الجديدة بقيادة دونالد ترامب، الذي يدرك أخطار هذه الأزمات المتفجّرة بكل تعقيداتها الإيديولوجية والتاريخية على الأمن الأميركي والدولي، في ظل تنامي الأفكار المتطرفة ونشوء التنظيمات الإرهابية على غرار «داعش» و «جبهة فتح الشام» أو «النصرة» سابقاً، إضافة إلى خطر انتشار السلاح النووي في المنطقة.

بعد انتهاء ولاية أوباما وتنصيب دونالد ترامب بات على منطقة الشرق الأوسط ومعها الدول الأوروبية والقوى العظمى الأخرى أن تنتظر لأشهر من أجل التعرف إلى الأطر والأولويات لسياسة الأمن القومي التي سيعتمدها ترامب، إضافة إلى السلوكيات الجديدة في التعاطي مع مختلف أزمات المنطقة.

من المتوقع أن يكون لشخصية الرئيس الأميركي الجديد وأسلوبه القيادي أثرهما الكبير في سياسته الشرق أوسطية، وفي مجمل سياسات إدارته الخارجية. لقد شكل صعود ترامب السياسي ونجاحه في الانتخابات لغزاً وصدمة لدى مختلف المراقبين والمتابعين للسياسة الأميركية. كانت مجمل التصريحات التي أدلى بها أثناء معركته الانتخابية، إضافة إلى المواقف التي عبّر عنها أثناء الفترة الإنتقالية مثيرة للجدل وغير متماسكة، كما اتسمت بالمغالاة والإبتزاز، وهذا ما دفع العديد من قيادات الحزب الجمهوري إلى رفضها والتبرؤ منها، خصوصاً تلك التصريحات ضد النساء والمسلمين والمهاجرين، وبعض الحكّام المستبدين السابقين أو الراهنين. وعلى رغم أن ترامب خاض الانتخابات باسم الحزب الجمهوري فقد تحدّى وخالف معظم الأفكار والسياسات المعتمدة من التيار المحافظ في الحلف. ويبدو أن هذه المقاربة في تحدي صانعي القرار في حزبه ساعدته في كسب الانتخابات الأولية، بالتالي الفوز في الانتخابات الرئاسية.

خرج ترامب من دون استئذان الحزب الجمهوري والمجتمع السياسي الأميركي على «التوافقية الدولية» التي خيمت على سياسات الولايات المتحدة الخارجية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، مستبدلاً هذه «التوافقية الدولية» بنزعة وطنية أميركية قوية، مع ميل ظاهر للعودة إلى سياسة «العزلة» التي كانت معتمدة قبل تحول أميركا إلى قوة عظمى لها دورها وعليها مسؤولياتها للحفاظ على السلم والاستقرار الدوليين.

أثار فوز ترامب هواجس جدية في جميع عواصم القرار، وفي الدول الشرق أوسطية، كما طرحت تساؤلات حول مستقبل الدور الأميركي في قيادة العالم. لكن سرعان ما حاول أحد أبرز الخبراء الاستراتيجيين في فريق ترامب ستيف بانون إلى التخفيف من مفاعيلها من خلال مقارنة تصريحات ترامب المثيرة للجدل مع المقاربة السياسية الهجومية والمملوءة بالتناقضات التي اعتمدها الرئيس اندرو جاكسون في حملته الانتخابية عام 1828 والتي جاءت متعاكسة كلياً مع نظرة النخب الأميركية الحاكمة خلال القرن التاسع عشر. حمل جاكسون معه إلى الرئاسة الأميركية ما بين عامي 1829 و 1837 ميلاً ظاهراً نحو اعتماد سياسة عدم التسامح والتهور، وأثّرت تجربة جاكسون وشخصيته في رؤية العديد من الأميركيين للدور الذي يجب أن تلعبه أميركا في العالم، خصوصاً لجهة ضرورة أن التركيز على مصالح الأميركيين وأن يتجنّبوا التورط في مشكلات الدول الأخرى، وإذا تجرّأ الغرباء على تهديد بلادهم فإن على الأمة الأميركية أن تردّ باستعمال كامل قدراتها المدمرة.

إذا أخذنا بالمقارنة التي قدّمها ستيف بانون بين جاكسون وترامب يمكن اعتبار كل التصريحات غير التقليدية والتحريضية والاستفزازية والمرعبة التي أدلى بها هذا الأخير أثناء حملته الانتخابية كجزء أساسي من محاولاته لجذب النظر إلى شخصيته «الخارجة عن المألوف». وتؤكد هذه النزعة لدى ترامب خياراته في انتقاء مساعديه الأساسيَّيْن، خصوصاً في الخارجية والدفاع والأمن القومي والأركان الخاصة في البيت الأبيض.

تقود هذه المراجعة لتصريحات أعضاء الإدارة «الجاكسونية الحديثة» بأن القضايا الشرق أوسطية المهمة التي يمكن أن تكون محطة اهتمام السياستين الخارجية والدفاعية مركزة على الأزمة السورية، والتهديد الذي تمثله الدولة الإسلامية والمنظمات الإرهابية الأخرى، والعلاقات المعقدة بين أميركا وإيران.

توجه ترامب أثناء معركته الانتخابية بانتقادات لاذعة للسياسة الأميركية المتبعة في الشرق الأوسط، وعبّر تكراراً عن «ازدرائه» مواقف الدول العربية المتشاركة مع أميركا، معتبراً أن الولايات المتحدة تقدّم الحماية لهذه الدول من دون أن تحصل في المقابل على المكاسب المناسبة لقيامها بذلك. في المقابل رأى ترامب في إسرائيل «صديقنا الأكبر» و «الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، وانتقد من سبقوه على تقصيرهم في تقديم الدعم الكافي لإسرائيل. ويبدو من خلال معظم تصريحاته أنه يعتبر إسرائيل كقوة عسكرية قادرة على دعم السياسة الأمنية الأميركية في المنطقة.

في الواقع يبدو ترامب غير راغب في التورّط عسكرياً في أزمات دول الشرق الأوسط، وأن خياراته العسكرية ستتركز على محاربة الإرهاب مع محاذرة التدخل في عمليات فرض الاستقرار أو إعادة بناء الدول، على غرار ما حاول فعله جورج دبليو بوش في أفغانستان والعراق.

رفض ترامب دائماً الدخول في تفصيلات السياسة التي سيعتمدها في التعامل مع أزمات المنطقة كالأزمة السورية أو غيرها، لكنه وعد بالتعامل بقوة وبقسوة مع الجماعات الإرهابية. ويشكل هذا الوعد مؤشراً على عدم رغبته في التورط عسكرياً في الحروب البرية الجارية في أكثر من دولة.

وكان من اللافت أن ترامب أبدى إعجابه ببعض القادة العرب الذين أسقطتهم ثورات «الربيع العربي» أمثال: حسني مبارك ومعمر القذافي، معتبراً أنه كان لا يجب الحكم عليهم على أساس احترامهم للحريات العامة لشعوبهم بل على أساس مدى نجاحهم في محاربة الإرهاب. وهنا لا بد من التساؤل عن موقف ترامب من استمرار بشار الأسد في حكم سورية، في سياق البحث مستقبلاً عن حل سياسي للأزمة السورية. ويؤكد هذا المنحى في نظرة ترامب إلى المنطقة بأنه لن يهتم بمدى احترام السلطات للحريات العامة ولحقوق الإنسان، بل سيتركز اهتمامه على حجم المشاركة العسكرية التي يمكن أن يقدمها هؤلاء الحكام لمساعدة أميركا في الحرب على الإرهاب والتطرف.

وفي ما يخص إيران ما زالت مواقف ترامب متضاربة ولا تؤشر فعلياً إلى السياسة الخارجية التي سيعتمدها في التعامل معها، سواء لجهة إعادة النظر في الاتفاق النووي أو لجهة الحد من نفوذها في الإقليم. وهنا لا بد من استحضار ما كتب الجنرال فلين مستشار ترامب للأمن القومي عن إيران بأنها «تمثل المحور الجامع لتحالف دولي يضم مجموعة شريرة من الدول والمنظمات لمواجهة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين».

في النهاية، على رغم قوة شخصية ترامب وقدرته على إطلاق الشعارات المؤثرة في الجمهور «الأبيض الأميركي» فقد أظهر حتى الآن ضعفاً ظاهراً في صوغ سياسات متماسكة، تملك الصدقية في المستويَيْن الداخلي والخارجي. وستتطلّب في رأينا عملية بلورة سياسة خارجية واضحة، من خلال مناقشات طويلة بينه وبين مساعديه ومستشاريه، على الأقل مدة ثلاثة أشهر. لكن، يبدو أن مساعدي ترامب يعتقدون (استناداً لتصريحاتهم) بأن في مقدورهم رسم سياسة خارجية واستراتيجية عسكرية خاصة بالشرق الأوسط أكثر فاعلية وأفضل من كل ما اعتمدته الإدارات التي سبقتهم.

* باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية