كتب المحامي د. أحمد مكداش في “اللواء”:
كان ينتظر انتهاء جولة ترامب الشرق أوسطيّة والتريليونيّة، حتى يُطلق عمليته العسكرية الجديدة والمجنونة تحت مسمّى «عربات جدعون». حدّد نتنياهو أهداف العمليّة: احتلال قطاع غزّة بالكامل، إلحاق هزيمة كاملة بحركة حماس وإجبارها على إلقاء السلاح وطرد قياديها من القطاع، وتحرير باقي الرهائن تحقيقاً لنصرٍ كاملٍ ومزعوم يضمن أمن إسرائيل وعدم مشاركة حماس في حكم غزّة.
يتعامل نتنياهو مع الرئيس الأميركي ترامب على قاعدة ما يعلنه الأخير أن أعماله ودور واشنطن في إطلاق سراح الأسير الأميركي الإسرائيلي «عيدان ألكسندر»، وجولاته في الرياض والدوحة وأبو ظبي، ستصب جميعها في النهاية في مصلحة إسرائيل. بنيامين المجنون يتصل بدونالد الحكيم ويشكره على تحرير آخر الرهائن الأحياء من الجنسية الأميركية بدون مقابل، وهو يدرك ان ما قامت به حماس كبادرة إيجابية تجاه الرئيس ترامب قد يزيد الضغط عليه لتخفيف القيود على المساعدات الإنسانية التي تكاد لا تصل إلى الشعب الفلسطيني حتى بعد تجاوزها للمعابر بحسب مسؤولي الأمم المتحدة. ولكنه من جهةٍ ثانية يبدو واثقاً أن عربات جدعون أو مركبات الجنون التي يقودها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي «إيال زمير» ستكون قادرة على بدء حملتها دون معارضة أميركية حقيقية، وذلك بعد إصدار الجيش لأوامر استدعاء عشرات الآلاف من الاحتياط لتحقيق الاهداف الإسرائيليّة وتحرير الأسرى المحتجزين منذ ١٩ شهراً.
صحيحٌ أن الإدارة الأميركية تظهر ممارستها لضغوطٍ دبلوماسية جادّة على إسرائيل لوقف أعمالها الحربية والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة المحاصر بالمجاعة والقتل والدمار بشكل غير مسبوق، وذلك من خلال استبعادها من جولة ترامب التي اقتصرت على دول الخليج في المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات، أو من خلال إرجاء نائب الرئيس الأميركي «جي دي فانس» زيارته التي كانت مقررة الثلاثاء إلى تل أبيب، إلّا أن مقترح مبعوث الرئيس الأميركي «ستيف ويتكوف» لا يزال عالقاً بين رفض نتنياهو لوقف الحرب بالكامل، وبين مطالب حماس بإنهاء الحرب وانسحاب الاحتلال بالكامل من قطاع غزة وإعادة الإعمار وإطلاق الأسرى الفلسطينيين. وينص مقترح ويتكوف الذي يبدو متوازناً نوعاً ما على مرحلة أولى يتم فيها الإفراج عن نصف المحتجزين الإسرائيليين الأحياء في مقابل وقف إطلاق النار بشكل مؤقت، ومرحلة ثانية ينجز فيها الإتفاق الشامل على إطلاق سراح باقي الأسرى والرهائن المحتجزين لدى حماس وإعلان وقف الحرب بشكل كامل.
داخلياً المعارضة الإسرائيلية لسياسة حكومة نتنياهو تزداد مع اتهامه بقيادة إسرائيل العزلة الدولية وإلى الجحيم بفعل الجرائم والفظائع المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، وبعدم اكتراثه بمصير الرهائن الذين تبقّى منهم عشرون على قيد الحياة من أصل ٥٨ رهينة متبقية لدى حماس والفصائل الفلسطينية. رئيس الوزراء الأسبق «إيهود أولمرت» وصف هذه الحرب بأنها بلا هدف وبلا فرصة لتحقيق أي شيء يمكن أن ينقذ حياة الرهائن. وقبله زعيم حزب الديمقراطيين الإسرائيليين «يائير غولان» فجّر سجالاً وجدلاً واسعاً في إسرائيل والخارج بقوله: «دولة عاقلة لا تشن حرباً على المدنيين، ولا تقتل الأطفال كهواية، ولا تنتهج سياسة تهجير السكان». ودولياً بدأت العاصفة الدولية تشتد بوجه نتنياهو مع مواقف إسبانيا والعديد من الدول الأوروبية، والمواقف الصادرة عن الاتحاد الأوروبي والقمة العربية، والجهود الأميركية – المصرية القطرية، والبيان المشترك عن فرنسا وبريطانيا وكندا التي هدّد قادتها في ١٩ أيار باتخاذ إجراءات ملموسة ضد إسرائيل في حال عدم إيقاف حملتها العسكرية على قطاع غزة، وعدم رفع القيود على المساعدات الإنسانية. عبّر القادة الثلاثة ماكرون وستارمر وكارني أنهم لن يقفوا متفرجين أو لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام الفظائع التي ترتكبها حكومة نتنياهو، وانهم سيتخذون إجراءات بما فيها العقوبات على إسرائيل في حال استمرار الحرب على غزة ومنع المساعدات الإنسانية وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية.
بالرغم من ذلك، عربات جدعون لم تتوقف! نتنياهو وصف بيان باريس ولندن واوتاوا المشترك انه يقدم جائزة كبرى لحماس والإرهاب الواقع في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. وزارة الخارجية الإسرائيلية رفضت بشدّة تعليق المملكة المتحدة للمفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية بشأن اتفاقية التجارة الحرة الجديدة، وقرارها بمراجعة التعاون معها بموجب خارطة الطريق الثنائية ٢٠٣٠. ولم تتوقف الخارجية الإسرائيلية في بيانها عند ذلك، بل أكدت على أن الإنتداب البريطاني انتهى قبل ٧٧ عاماً، وأن إسرائيل لا تخضع للضغوطات الخارجية، وهي ملتزمة بالدفاع عن وجودها وأمن مواطنيها في مواجهة التهديدات المستمرة.
من يكسر الحصار عن غزة؟! من يوقف عربات جدعون وجنون نتنياهو وكاتس وبن غفير وسموتريتش؟ من يرفع المعاناة التي لا تطاق عن أبناء الشعب الفلسطيني؟ من يوقف هذه المجاعة والمذبحة بحق الاطفال والمدنيين؟ وهل يمكن لهذه الغطرسة الإسرائيلية أن تقف في وجه العاصفة الدولية التي باتت تهبّ من عواصم الدول الكبرى التي طالما كانت داعمة لإسرائيل؟
نتنياهو يخاطبهم: اقتدوا بالرئيس الأميركي! لكن ترامب ليس على موقف واحد من هوى نتنياهو. من السعي إلى إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية، إلى وقف النيران الهندية – الباكستانية، ومن الحروب التجارية من الصين إلى أوروبا والقارة الأميركية والعودة إلى المفاوضات على الطريقة الترامبية، ومن عظمة أميركا التي تلقي بظلالها فوق كندا وبنما وغرينلاند وتضرب في اليمن والبحر الأحمر إلى المفاوضات النووية مع إيران وجولة ترامب التاريخية في الشرق الأوسط، يبدو أن الكلمة الأخيرة في غزة ستكون لواشنطن، وذلك في حال تمكن ترامب من فرض معادلة السلام الإبراهيمي وتوسيعها في المنطقة.
في تصريح مسؤول أميركي إلى القناة ١٢ العبرية بعد لقائه قبل أسبوعين بعائلات الأسرى الإسرائيليين قال: «إسرائيل فاتها القطار… واشنطن لن تنتظر على الرصيف، ونأمل أن تلحق إسرائيل بالقطار التاريخي الذي غادر المحطة بالفعل». وبقدر ما يعطي هذا الكلام أملاً بإمكانية لحاق نتنياهو ولو متأخراً بهذا القطار بطريقة ما تضع حداً للحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، بقدر ما يحمل ايضاً خطورة كارثية في استمرار حملة التطهير العرقي وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه التي لم تعد قابلة للحياة في غزة. العاصفة الدولية مهمّة ومؤثرة وغير مسبوقة ولو جاءت متأخّرة، وفي الأيام القادمة ما علينا إلّا انتظار العاصفة الأميركية، لنرى!