Beirut weather 16.88 ° C
تاريخ النشر July 6, 2016
A A A
الطريق إلى السلطة وتبييض وتسويد الصفحات وفقاً للأهواء
الكاتب: هدى صليبا - اللواء

حول المحكمة العسكرية شؤون وشجون تذكّرنا بكتاب فؤاد عوض
*

عندما تؤسِّس الحكومات والدول كياناً ما لحفظ وجودها ومكانتها في ذات البلاد وبين الدول، ولتطبيق القوانين المشرَّعة أصولا، بهدف حماية شعبها وبسط السلام والنظام والطمأنينة، ليس فقط فيما بين الشعب الواحد، انما ايضا في نفوس الشعوب والمسؤولين أجمعين، وخصوصا عندما توقِّع حكومات تلك البلاد على اتفاقيات تطبيق القوانين الدولية، وأبرزها قانون وشرعة حقوق الانسان العالمية، تكون لهذا الكيان موجبات وأسباب وأهداف، لا بدّ من أن تحثّه على ضرورة وجوده وترسيخه، والعمل في السياق الذي من اجله أنشئ وفُعِّل، حتى ولو كان هذا الكيان استثنائياً، دائما او غير دائم، بحيث يسعى الى تحقيق اهداف وجوده كالمسؤول يعرف قيمة الوطن وأهمية المواطنية الصالحة.

انطلاقا من هذا المبدأ الرئيسي، تثور ثائرة بعض المسؤولين حول الأحكام العسكرية الانتقائية التي تصدرها المحكمة العسكرية الدائمة وحتى التمييزية فيها، والتي تتراوح بين القاسية واللينة، وكل قضية بحسب ما تنطوي عليه من مضمون يتعلق بشخص المتهم وانتمائه، وبالتهم الجرمية الموجهة اليه وبالظروف التي تحيط بالقضية.

وتطالعنا بعض الصحف من وقت الى آخر، وتحديدا في الآونة الأخيرة، بعد حكم البداية ضد الوزير السابق ميشال سماحة في جرائم الارهاب، بمقالات تتعلق بتحسين صورة القضاء العسكري للرأي العام، والاشارة بعد المطالبة بإلغاء المحكمة العسكرية الاستثنائية، الى انها ضرورة ماسة لا يمكن الاستغناء عنها؟ فيُعَدِّد الكاتب في المقال، والذي غالبا ما ينتمي الى جهة معينة، ويكون بعيدا جدا عن الأجواء الحقيقية داخل قاعات المحكمة العسكرية، ويستقي كل معلوماته من مصادر غير واضحة رغم الاشارة اليها، قد تكون من أشخاص معنيين لهم مصلحة وأهداف في ذلك، يعدّد الكاتب رقم القضايا المفصولة، ونوع التهم التي يُحال بموجبها المتهم للمحاكمة والجرائم المرتكبة بحق المدنيين، وبحق كيان الدولة واستقرارها الأمني، متجاهلا كل الاسباب الحقيقية التي دعت الى المطالبة بإلغاء المحكمة العسكرية! ومتغاضيا عن ذكر كل الاجراءات القانونية التي في حال تطبيقها تضع الامور في سكّتها الصحيحة، فتنقذ البلاد وسمعة الجيش اللبناني وقيادييه الشرفاء، وتسير بالعدالة الى المستوى اللائق بلبنان وانسانه!!

لا شك في أن الضباط العمداء الذين يتولون رئاسة هيئات المحكمة العسكرية الدائمة هم من الضباط القادرين على تحمل هذا العبء من الكم الهائل للقضايا التي تنظرها هيئة المحكمة.

ولا شك أيضا في ان هؤلاء يُحضَّرون لتسلُّم هذه المهمة الشاقة والطويلة، لكن المسألة لا تكمُن فقط في التحدي لجهة وفرة تلك المقدرة، ولا في كمية القضايا المفصول بها، انما في النوعية الجيدة للمحاكمة ومن ثم الأحكام، والآلية السليمة المُتَّبَعة، وفي اصدار الاحكام التي لا يمكن نقضها تمييزا او عدم نقضها الابالقانون وبالقانون وحده وليس بغيره، مع الاشارة الى ان محكمة التمييز العسكرية التفتت بدورها الى هذه الناحية، فباتت بعد الوزيرة القاضية أليس شبطيني، سداً منيعاً في وجه تطبيق القانون بحق، تماما كما هي الحال في بعض قضايا مجلس شورى الدولة، والذي كيفما دافع صاحب الحق عن حقه، يتسلّح بتذرعات تشير دائما وبعيدا عن المنطق السليم، والعلم الحاسم، الا انه يحق للهيئة القضائية الناظرة في الملف، بما لها من سلطة استنسابية واستئناسية في اصدار الاحكام، تسطير النتيجة التي توصلت اليها، لأن الحكومة ومسؤوليها بحسب حساباته دائما على حق، ولأن القضاء الاداري لا بدّ من ان ينصُر الدولة اللبنانية ظالمة كانت ام مظلومة، ولو عاكس المجلس المنطق السليم ومواد قانون اصول المحاكمات المدنية، ولو طُبِّقِت وأُعْلِنَت أحكام المجلس بصورة مشوِّهة للحقائق!

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يزداد عدد القضايا الواردة الى المحكمة العسكرية؟ لولا ان عملية ضبط الارهاب مُحْكَمَة، ومسألة العمالة مضبوطة؟!

ولماذا رغم ان التحقيقات والملفات تصل جاهزة للمحاكمة العلنية امام المحكمة العسكرية، يصار الى تأجيلها مئات المرات قبل السير بالمحاكمة ولفظ الفقرة الحكمية؟

ويشدّد القانون على ان المحكمة تُسَطِّر كل الاحكام باسم الشعب اللبناني، وعلى ان جلسات المحاكمات علنية، ما يتعين معها نشر كل الاحكام لكي تثبت كما هو الحال بالنسبة للقضاء العدلي.

غير ان الواقع الحاصل، لا يُسْمَح بنشر تلك الاحكام ولا بالاطلاع عليها او الحصول على نسخة منها لنشرها، فتبقى تلك الاحكام الصادرة عن المحكمة العسكرية سرّية في كل مضامينها، ما يجعل المحكمة عمليا مُغلقة، وغير منتظِمة بأحكام القانون، مع الاشارة الى ان تلك الاحكام في مرحلتيها امام الهيئة الدائمة وهيئة التمييز، تُحْفظ في المبنى العسكري الأبيض في منطقة الشياح – عين الرمانة، ولا يمكن الاطلاع على ارشيف الاحكام في المبنى الا بموافقة قيادة الجيش، وهذا شبه مستحيل، ويُفضي الى عدم توثيق هذه الأحكام ما يحول دون استفادة لفيف الحقوقيين من محامين وقضاة وما اليهم من الاجتهادات التي تصدرها، ويجعل تلك الاحكام خارج متناول الكافة، علما بأنها تصدر في الاساس بإسم الشعب اللبناني، وللشعب هذا حق الاطلاع والحصول عليها من دون اي مانع أو تحفظ او سرية في ما خلا احكام القانون الالزامية في هذا الصدد! وعلما ايضا وبالمقارنة فإن الوثائق الاميركية السرية لا تبقى في الظلمة انما يُكشف الستار عنها بعد مُضي عشرة اعوام وهي الدولة العظمى على الكرة الارضية.

mahkama

وبالتالي فإن استقلال القضاء في المحكمة مشكوك فيه اذ يبقى صَرْف النفوذ في تسطير الاحكام مرجّحاً من قبل بعض الاجهزة الامنية التي تُملي ارادتها في التحقيق، وفي الاحكام التي تكاد تصدر من لحظة ختم التحقيق الأولي، على طريقة ما كُتِب قد كُتِب، مثل الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية الدائمة، بحق الوزيرالسابق ميشال سماحة. والحكم الصادر عن المحكمة نفسها بحق أديب العلم الذي وقّع على حكم البداية عقيدٌ وهو أقل رتبة من العميد العلم لضمان نقضه امام محكمة التمييز العسكرية.

وحكم احداث عبرا في الملف الاول الذي لُطِّفت فيه العقوبات وفق من هم الوكلاء، رغم ان البعض من المتهمين يشكلون خطورة بالغة على المجتمع، وهم من بين الارهابيين، ولهم في الاحداث هذه اليد الطولى، ما يَشي بعدم احكام الترابط في التحقيقات العلنية، مع ضعف في الحجة القانونية وفقدان للمنطق السليم، في مقابل جملة من الافتراءات في الاحالات المتقطعة التوصيل والتدخلات والوساطات التي لا يستطيع اعضاء المحكمة خصوصا الرئيس رفضها لأسباب سياسية مناطقية حزبية..

كما أن هذه المحكمة ذات التاريخ الطويل الممتد منذ عهد الانتداب الفرنسي الى حقبات ومراحل بما فيها الحرب اللبنانية، فَاتَهَا، ولم تتمكن من محاكمة كل الضباط الذين قادوا حركات انشقاقية على الجيش اللبناني، هي أشهر من، نار على علم، وكان الأولى بالمحكمة ان تفعل! وعندما قامت بدورها في محاكمة من شارك في حدث جلل ألمّ بالوطن تبين لكبار الحقوقيين من أهل المهنة بجناحيها ان في طيات احكامها من الظلم الف عطب وعطب..

اضافة انه لأداء القضاة خلف قوس المحاكم مهما كان نوع تلك المحكمة، موجبات لا بد من الالتزام بها،كما جاء في كتيب وضعه مجلس القضاء الاعلى «الدليل الى واجبات القضاة واخلاقياتهم» وهذه الموجبات مُنْتَهَكَة في المحكمة العسكرية، لا سيما موجب التحفظ حيث تُعْطى الآراء المسبقة لاعلى القوسوالقناعة المتبناة لما دونته الضابطة العدلية العسكرية في التحقيقات الاولية في وزارة الدفاع، وذلك بالحرف والروح خلافاً لمبدأ استقلال القضاء، وهذا يُرد الى عدم اختيار المجاز في القانون والمتمرس في ترؤس الجلسات وادارتها، لا سيما ان النص لا يشير لا من قريب ولا من بعيد الى ان يكون رئيس المحكمة العسكرية الدائمة مجازا في الحقوق، في حين ان النص يُلْزِم بذلك عند اختيار ضابط ليكون قاضيَ تحقيق عسكري، كما ان النص يعطي اولوية في تعيين الحاكم العسكري المنفرد في المناطق للضباط المجازين في الحقوق.

ويتحدث دليل واجبات القضاة واخلاقياتهم عن مادة الموجبات المطلوبة من القضاة، والتي تنطلق من الاخلاق والمبادىء الانسانية التي تنص عليها الاصول والتقاليد والمفاهيم في علو القضاء وقبله القضاة، وتلك الموجبات لا يمكن ضبطها في شرنقة قانونية نصية محددة، لكن اغناء النصوص بمادة اضافية تتحول بذاتها الى مجموعة قواعد ملزمة تصبح قواعد معتمدة ومتعارف عليها في مجال سلوك القضاة.

ووثيقة القواعد الاساسية لأخلاقيات القضاة عام 2005 انطوت على ثماني قواعد اصلية تضمنت قواعد فرعية: استقلال القاضي وحماية نفسه من التأثيرات معتمدا الاسباب القانونية الملائمة بمنأى عن أي تحريض او ضغط او تدخل حتى من الزملاء. التجرد في التصرف الذي يجب ان يكون تصرف الاب الصالح واعطاء الحكم المنزَّه، والمَيْل عن اي هوى خاص، وعن توقّع اي مَكْسَب فردي، ممارسا وظيفته بالطريقة التي تعزّز الثقة به، وتقلّل الفُرص التي تدفع المتقاضين الى طلب ردّه. وادارة التحقيق بشكل حازم واحترام حقوق الدفاع، وان لا يبادر الى التنحي ان كان تنحيه يؤدي الى التمنع عن احقاق الحق. والامتناع عن اي تعليق يتناول مسار المحاكمة ويوحي انه سيحرم احد أطراف النزاع من نتيجة عادلة يتوخّاها سواء علق في معرض المحاكمة او خارجها. والحياد لون من الوان التجرد وعدم ممارسة الانتقائية في الاحكام.

كذلك فإن احد المؤلفات الذي حاز جائزة الامتياز والتفوق العلمي من جامعة عين شمس في مصر للدكتور محمد علي سويلم «التكييف في المواد الجنائية» تضمَّن ان الارهاق الناجم عن اطالة الاستجواب من شأنه أن يشكّل سببا تمييزيا في نقض الحكم، ولا يجوز ان يتولى الاستجواب من لا علم له به ومن ليس مجازا في الحقوق، لانه سوف يستجوب كمحقق عدلي عسكري، وليس كرئيس لمحكمة، اذ مع اختلاف الموقع تختلف الطريقة في التحقيق، وهذا من المآخذ المتشدّد عليها في ادارة جلسات المحكمة.والقاضية الوزيرة اليس شبطيني التي كانت تعرف كيف تطبق عمليا القانون في استجواباتها العلنية، خاطبت ذات مرة المتهم مستخدمة تعبيرا استباقيا احتجّ عليه الدفاع واعتبره متضمِّنا الادانة، فأعلنت تنحيِّها عن الملف! فالاسئلة لا بد من ان تكون حيادية، قليلة العدد، مدروسة لكي يُحسن القاضي الاستجواب، ولا يطيل الجلسات دون طائل، لكي يؤمن حسن سير العدالة كما يقتضيه المبدأ والنص.

ولا ننسى ان المحكمة العسكرية الدائمة تتألف من ثلاث هيئات، هيئة جنائية، وثانية جناحية، وثالثة احتياطية تحل محل واحدة من الهيئتين عند الاقتضاء، وتتمتع بالحقوق عينها في الأداء. لكن الواقع اليوم يُعتبر غير سليم، لأن الهيئتين ينظر في ملفاتهما ضابط من الطائفة الشيعية، ويترأس الهيئة الاحتياطية الثالثة ضابط ارثوذكسي، يشكلها بذاته، حيث انه يترأس فقط الهيئة الاصلية، عندما يغيب رئيسها من دون ان تكون له هيئة احتياطية خاصة بتلك التسمية تجلس الى جانبه، هذا على الاقل ما يحدث عمليا، وفي حال جلوسه يقتصر عمله على تأجيل الجلسات. كما أنه في السر، محظور عليه البت بالملفات الا في بعض الجنح البسيطة غير ذات شأن. وهنا يبدو جليا كيف ان الطائفية السياسية تمس بحسن أداء منصب القضاء العسكري فلو ان التعيين في المنصب معلَّقا على الكفاءة فقط والشهادة المخوِّلة له، لاختلفت الاوضاع من حيث الأداء، وانتظمت شؤون القضاء العسكري من دون اي مأخذ أو شائبة.

كما ان وصْف اصدار الاحكام الكثيرة بالانجاز، يُعد مُبَالَغ فيه، لأن العدد الرقمي ليس انجازا.فالانجاز يكمن في عدد الاحكام المُبْرمة التي لم تعُد قابلة للنقض، وهي ليست بالأعداد الظاهرة في الاحصاءات المنشورة. كما ان الانجازات لا تُحصر فقط في اصدار الاحكام النوعية، انما ايضا في قرارات اخلاء السبيل التي تعطي صورة واضحة عن سير العمل في المحكمة العسكرية الدائمة، وعن مدى انتظامه وصدقيته، وهنا تكثر الاقاويل والشائعات التي طاولت هذه المحكمة، والتي وصلت الى شاشات التلفزة، منها برنامج الفساد في خريف العام 2015.

هذا الوضع الذي يعرفه اللبنانيون اليوم، يُذكِّر بما كتبه الضابط اللبناني فؤاد عوض في كتابه «الطريق الى السلطة» بأن عدم اصلاح لبنان في دوائره الرسمية وفي محاكمه، سببه الخلاف الدائم بين الاطراف الحاكمة على السلطة،والذي يترجَم احيانا بالعصيان المسلح،وهو تعبير عن وقائع حقيقية تؤكدها الاحداث والتصرفات الشخصية والسرية. وان نضال فؤاد عوض ضد طمس الحقائق، وتبييض او تسويد الصفحات وفقا للأهواء والمصالح، جعلته ينشر كتابه ليظهر الحقيقة العارية والمجردة عن كل غرض شخصي. كما ان الصورة التي وصَفها للواقع الماضي، ترسم واقع الحاضر تماما اذ أكدعوض ان الحكومات المدنية قناع يتستّر بعضُ ضباطه وراءه، والقرارات الهامة تؤخذ سلفا بعد ان تُحَضّر من قبل العسكريين والخبراء الفرنسيين آنذاك وتتم الموافقة عليها آلياً.

اضافة الى ان الكتاب الصادر حديثا والذي اشرف على اعداده المحامي بول مرقص والمتعلق بالمحكمة العسكرية وبضرورة تعديل نظامها، أشار الى وجوب التعليل العلني المفقود في احكام المحكمة العسكرية، والى ان التبعية لوزارة الدفاع ووضعها خارج سلطة وزارة العدل ونطاق القانون العادي يناقض مبدأ فصل السلطات بحيث تتدخل السلطة التنفيذية في اقامة العدالة، وفي ضمان حقوق الانسان وهو ما اعتبرتهاللجنة الاميركية الدولية،ان المحكمة العسكرية ليست مختصة ولا مستقلة ولا محايدة لانها تتبع وزارة الدفاع التي هي جزء من السلطة التنفيذية. كما اشار الى ضرورة تطبيق مبدأ المساواة بين المواطنين امام القضاء والى عدم حياد المؤسسات والافراد.

وختاما وبين قائل بوجوب الغاء هذه المحاكم العسكرية الاستثنائية، وقائل بضرورة ابقائها صماما للأمن والوطن، لا بد من ان نشير الى ان الوسيلة الناجعة والفضلى تكمن في اعادة تأهيل جميع من يشارك في تأليف هذه المنظومة، من قضاة ومساعدين قضائيين عسكريين، ناهيك بالمحامين الذين يرتادون هذه المحاكم وهم غير مؤهلين على حداثة سنهم وضعف خبرتهم لمواجهة هذا النوع من المحاكم الاستثنائية. ولا ننسى النقابات المعنية ودورها الرقابي في ضبط الامور وتقويمها، والمحاسبة من اصحاب الشأن، والا على الله السلام في الوطن والمواطن، ولبنان لن يستطيع ان يلحق نفسه!!!
***

خلال إحدى المحاكمات في قاعة المحكمة العسكرية

خلال إحدى المحاكمات في قاعة المحكمة العسكرية