Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر December 16, 2016
A A A
الشّعب الذي انتزعَ الحياة من رَحِمِ الموت
الكاتب: نواف ابراهيم - سبوتنيك

بدأت الحرب الإرهابية العالمية على سورية بالانحسار بشكلٍ تدريجيّ واضح، ونقول الحرب العالمية، انطلاقا من مشاركة ما يزيد عن مِئة دولة فيها، وزجّ ما يزيد عن 300 ألف وحش مفترس بهيئة تشبه هيئة الإنسان من المعدّلين جينياً أو وِراثياً ومغسوليّ العقول.

بعد العجز التّام خلال العام الأول أمام القدرة على تحريك نسبة 1% من الشّعب السّوريّ ضدّ دولته وحكومته وحتّى رئيسه، الذي لولا محبّة الشّعب له قولاً واحداً لما استطاعت أي قوّة في الكون، عدا القدرة الإلهية، أن تبقيه في سدّة الحكم، وهذا ما راهن عليه الرئيس الأسد المؤمِن بربّه وشعبه ووطنه وبنفسه، وهنا كانت القوّة الحقيقية والركيزة الأساسية للدّولة السّورية وقيادتها في الصمود الحقيقي، ريثما تمّ الطلب من الحلفاء تقديم الدّعم بعد أن تمّت محاربة الشّعب السّوري واستنفذت كل إمكاناته بشكلٍ وحشيّ حقير لم يحصل في الغابات تحت شعارات كاذبة واهية كالحريّة والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تمتّع بها السّوريّ قبل الأزمة أكثر ممّا تمتّع بها مواطنو هذه الدول الغازية، بدءاً من مجّانية التعليم والطبابة والمشاريع والخدمات الاجتماعية المجّانية والعد يطول.

في الوقت الذي لم تستطع فيه هذه الدّول وعلى رأسهم أمّهم أميركا أن تعالج موضوع التأمين الإجتماعي والصّحي حتّى اللحظة وهي تُسمّى دولة عظمى، أمّا عن دول البترودولار فحدّث ولا حرج والصّمت هنا أبلغ من الكلام، وبصرف النظر عن العوامل والأسباب التي جعلت بعض الحِراك المًفبرَك في سورية يتحرَّك انطلاقاً من استخدام بعض الحالات المريضة بفعل عواملٍ سياسيّة واجتماعية واقتصادية وحتّى دينية تكفيرية تتحمّل العائلة والمؤسّسات التعلمية والأحزاب السّياسية والحكومات السابقة جزءاً كبيراً من تفشّيها بالرغم من ضآلتها، علماً أنها حالة أقل من طبيعية في أي مجتمع، لكن تختلف سُبُل التعامل معها من مجتمعٍ لأخر حسب القوانين والعادات والتقاليد والأطُر التي تحكمها.

انقلب العالم رأسا على عقب ولم تسقط حلب ولا يحتاج الأمر هنا إلى تفاصيلٍ أكثر هذه الحوامل تم العمل عليها من قبل البدء بالحرب على العراق عام 2003، لا بل يمكن القول منذ بدء الحصار على العراق عام 1991 مع بدايات انهيار الاتحاد السوفيتي بطريقة محكمة للغاية في التخطيط لما جرى ويجري في العالم العربي، وبالعودة إلى الحِراك الداخلي الذي لم يرتقِ بأيّ شكلٍ من الأشكال إلى ما يمكن أن يُسمّى “ثورة” انطلاقاً من المستوى المعرفي والعلمي لبضع مِئات من الذين خرجوا في شوارع بعض المُدن السّورية، دعمها بعض الحِراك المنظّم من جوامع محدّدة كان يُعمَل عليها من قبل، ضِف على ذلك التحضير الكبير وعالي الجودة لعمليات الفبركة الإعلامية المدروسة والموزّعة بدقة متناهية على مرتزقة أرادوا جنيَ الأموال كما غيرهم ممّن حملوا السّلاح فيما بعد ضد الدّولة والشّعب، ونفّذوا أبشع صور الاعتداء على الممتلكات وحُرُمات الشّعب والدّولة، من قتلٍ وذبح ٍ واغتصاب، ونهبٍ وسلبٍ وأكلِ قلوبِ البشر، لإرهاب الشّعب نفسياًّ وإجباره على التقوقع إن لم يكُن يريد المشاركة في ثورتهم المزعومة، ولكن كان قرار الشّعب واضحاً كعيَن الشّمس، فحتّى اللحظة كلُّ دوائر ومؤسسات الدّولة قائمة وتعمل، حتّى المدارس والأطفال ودور الحضانة التي لم تمنعهم عمليات القصف والتفجير الممنهج للجهاديين مسمومي الأجساد والعقول بالمخدّرات وفتاوَى شيوخٍ أقلّ ما يُقال عنهم مرضى نفسيين ومُعاقين ومجانين.

الثّورات الحقيقية تقوم على أسُس ومرتكزات علمية وأخلاقية وإنسانية هادفة إلى تغييرٍ جذريٍّ إيجابي حقيقي للنهوض بالمجتمع، ويقودها المفكّرون وأصحاب الفكر البنّاء الذين يحملون مشاريع نظيفة تخدم الوطن والشّعب تسخّر العلم والفكر لتعزيز التطوّر الإنساني ورِفعة شأنه، لا أن تدمّره وتحرقه وتحقّق أجندات خارجية لدولٍ لا يهمّها سِوى الانتقام السّياسي أو القومي الطائفي التكفيري، كما هو حال بعض الدّول الإقليمية، وبطبيعة الحال الإقتصادي الجيوسياسي والأمني التوسّعي، كما هي حال دول الغرب ومعهم إسرائيل وتركيا على وجه الخصوص.

ولكن في غمرة هذه التشعّبات والمتاهات التي تُذهِب العقول يمكننا وببساطة القول أنّ مُجمَل التطوّرات التي تلفّ الحالة السّورية في الوقت الراهن تدلّ على تغيّرات إيجابية كبيرة لصالح الدّولة السّورية وحلفاءها في حربهم على الإرهاب، الذي يعصِف بالبلاد منذ ست سنوات تقريباً، والذي حظيَ بدعمٍ إقليميّ ودوليّ غير محدودٍ من كافّة النواحي السّياسية والإعلامية واللوجستية والعسكرية التقنية.

لكن عندما ننظر إلى تقهقُر الإرهاب على كافّة الجبهات السّورية وخاصّة على جبهة حلب، التي أشعلت نار الغيَظ في قلوب ونفوس داعميه الإقليميين والدوليين، فإنّنا نرى إنقلابات كبيرة على المستوييَن الإقليمي والدّولي والكل يجري وبعضه يزحف ليرتشف رمق البقاء، فعلى الرغم من الإمكانات الهائلة التي وظّفت للضغط على سورية وحلفاءها وعلى وجه الخصوص إيران وروسيا لم تأتِ أكلها مؤخّراً، بدءاً من التهديدات الأميركية بإلغاء الإتفاق النووي الإيراني، والحرب على الإعلام الروسي، وصولاً إلى جلسة البُكاء الكاذب على الشّعب السّوري في مجلس الأمن مؤخّراً وبدعوة من فرنسا وبريطانيا، والتي باءت بالفشل أيضاً لعدم قدرة هذه الدول على تقديم الدلائل الكافية للإتهامات التي وجّهتها لسورية وحلفاءها، ومن هنا نرى أن هذه الإجراءات عزّزت أصلاً موقف الدّولة السّورية وحلفاءها وأدّت إلى الكثير من التراجعات عن بعض المواقف المُعادية لسورية وعلى سبيل المثال لا الحصر، تراجُع الرئيس التركي عن تصريحاته حول إسقاط الحكومة السّورية والرئيس بشار الأسد، وكذلك الأمر تصريحات ترامب بأنّ زمن إسقاط الأنظمة بالقوّة قد ولّى، لِنَصِل إلى الدنمارك التي أعلنت سحب طائراتها المُشارِكة مع التحالف الدّولي من العمل في سورية، وغيرها الكثير الكثير من التطوّرات، التي لا يمكن فهمها إلا على أنّها انتصاراً للصمود السّوري بدعم الحلفاء، وإنكساراً متعدّد الجوانب للحلف الإقليميّ الدوليّ الذي أراد النيَل من سورية، ما يعني أنّ مشروع الشّرق الأوسط الكبير قد يُصبِح قريباً في عالم الضياع بالتوازي مع مشروع الإسلام السّياسي، وتبدأ مرحلة التوافقات الإقليمية والدّولية بالإكراه لحلّ الملفّ السّوريّ، لأنّ الجميع أصبح عاجزاً بالفعل عن تقديم أي تطوّر يخدم مصالحهم في سورية، بعد الإنكسارات التي مُنيَ بها ما يُسمّى التحالف الدّولي لمكافحة الإرهاب، ولكن بطبيعة الحال المرحلة الحاليّة وما سيتبعها هي أدقّ وأخطر وأهمّ مراحل تطوّرات القضية السّورية، ويبدو أنه على الطرف السّوري ومن معه من حلفاءٍ أن يتجّهزوا بدقّة عالية لمرحلة ما بعد دحر الإرهاب.

ومن هنا نرى أن الازمة في سورية هي أزمة إقليمية دولية بامتياز، أمّا الأزمة السّورية الحقيقية فهي تبدأ من هذه اللحظات، فيتّضِح من التراجُعات الإقليمية والدّولية أنّه يتم العمل على مخطّط جديد وأنا شخصياً أثق أنّ سورية كدولة وشعب وقيادة مع الحلفاء متنبّهون لها جدّاً، ولكن لا أدري تماماً كيف ستتم المواجهة، في المرحلة القادمة عندما تبدأ كل هذه الدول ونقصد هنا في الحلف المُعادي بفتح فمها كالوحش الكاسر، لاستغلال الوضع السّوري الذي سينشَئ جرّاء عودة الملايين إلى ديارهم المدمّرة، وحجم الإحتياجات السّياسية والشّعبية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية لإعادة الإعمار وإستيعاب الكمّ الهائل من الضغوط التي ستترتّب على الدّولة السورية في إعادة إعمار النفوس قبل إعادة إعمار الحجر، وهنا تكمُن الأزمة الحقيقية ومقدرة الدّولة السّورية مع الحلفاء على تجاوز آثارها المترتّبة، وإمكانية الإحاطة بها منعاً من تمرير مخطّط احتياطي تعمل على إنجازه الدّول التي خسرت الحرب بكلّ أدواتها كي تعوّض ما سبق بما يلحق.

قادمات الأيام ليست كفيلة هذه المرّة بتوضيح الصّورة في ظلّ غياب المقدرة على الإستشعار عن بُعد في ظلّ هذا التحايُل والخِداع الدّوليّ الماكر، ولكن وببساطة الدّولة التي تحمّل شعبها كل هذه المآسي وهذه المذابح سيكون بطبيعة الحال قادراً على العودة إلى الحياة أفضل ممّا كان عليه سابقاً. ويبقى السؤال هنا بالأصل، هل بقي من التضحية ما يمكن لهذا الشعب أن يضحّي به؟

بالمُختصَر نعم لأنّه لا يمكن أن يكون هناك تضحية أعظم من التضحية بالحياة تجاه الوطن، ومن يُضحّي بحياته وهو يرفع الأيادي والزغاريد فرحاً بالموت لأجل الوطن، ستهون عليه كل التضحيات من أجل أن يخلِق من العوز اكتفاء ومن الموت حياة. وفي الختام أقلّ ما يمكن أن يُقال في هذا الشّعب قدّس الله روح شعبٍ آمن بربّه وبما قسمه له من عذابات الحياة والقَصَاص في الدنيا، فخلق من الموت حياتاً تعجز الدنيا بما فيها أن تقتلها.