Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر June 3, 2018
A A A
الشيخ ميخائيل… حكاية رجل الدين الأزهري الذي “تحوّل” إلى المسيحية
الكاتب: محمود عبد الرحمن - رصيف 22

“شاع أن حضرة الشيخ محمد بن محمد منصور يريد أن يعتنق النصرانية فتأسفت لذلك نفوس المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وكادت أرواحنا تزهق دون أن نسمع بمثل هذا عن مثله”.

كانت هذا بعض ما جاء في رسالة أرسلها العلامة بمدينة سوهاج المصرية، الشيخ محمد عبد ربه، إلى الشيخ بكر الحداد في القاهرة، واستعلم فيها عن حقيقة اعتناق الشيخ محمد بن منصور المسيحية.

هو الشيخ محمد بن محمد بن منصور. ولد في مدينة جرجا في محافظة سوهاج، جنوب مصر، عام 1871، وتلقى علوم الدين في طفولته في مسجد “العارف بالله”، ثم انتقل إلى المعهد الديني في مدينة بلصفورة، بالمحافظة ذاتها، وتتلمذ على يد المعلم الصوفي الشهير الشيخ علي بدر.

يذكر الشيخ كامل بن منصور، شقيق الشيخ محمد، في كتابه “الشيخ ميخائيل منصور” أن شقيقه تلقى فقه الإمام مالك وتفسير القرآن وأحاديث الأربعين النووية وصحيحي مسلم والبخاري وكثير من كتب التوحيد واللغة والصرف والنحو والبيان والمنطق والشعر وأدب اللغة والفلسفة والتاريخ، ومهر في كل ذلك مهارة فائقة بهرت رفاقه، وأعجب بها شيخه.

غادر محمد بن منصور حلقات الدروس وعاد إلى مدينة سوهاج في أواخر عام 1891، فكان في أول عهده هذا كثير التفكير قليل الكلام، ميالاً إلى الانفراد، ومنكباً على تصفح المطولات من الكتب في أكثر أوقات نهاره، سالكاً مسالك الصوفيين، حتى أقبل عليه كثيرون للاستضاءة بعلمه.

ثم شاعت خبرته، وانتقل من الانفراد إلى مخالطة الناس وأعطى رأيه في القضايا الدينية، وصار مشهوراً وغيّر أسلوب وطريقة حياته وبدأ ينفتح على الأصدقاء والمعارف، وسئل مرات عدة أن يكون إماماً لمسجد سوهاج الرئيسي، وأمضى وقتاً في كتابة الشعر والنثر للتعبير عما وصل إليه في الإسلام، وألّف ألفية لأسماء الله الحسنى.

دعوة المسيحيين إلى الإسلام
في عام 1893، بدأ الشيخ بالبحث في أمر الدين المسيحي مدفوعاً بغيرته على الإسلام، واستأذن شيخه علي بدر في دعوة المسيحيين إلى الإسلام ومجادلتهم فلم يوافق الأخير على هذه الفكرة، وقال في هذا الصدد: “أخذت علينا العهود ألا نعترض على نصارى ولا يهود”. ورد عليه محمد بن منصور بأن الأمر واجب على كل مسلم، تبعاً لقوله تعالى: “وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”.
ويعلّق الأستاذ المختص في مقارنة الأديان بجامعة الأزهر حسام الدين بدر على هذه الحكاية بقوله إنها “ربما تكون غير دقيقة”، مضيفاً أن “الشيخ علي بدر وجد في محمد بن منصور شذوذاً في الأفكار قد يُحدث فتنة بين المسيحيين والمسلمين، وطلب منه أن يترك المسيحيين وشأنهم”.وبرأي بدر، كان ابن منصور يتبنى “فكرة صوفية متمثلة في وحدة الدين، وفهمها فهماً خاطئاً على أنها وحدة الأديان”.

اللقاء بميخائيل
استمر محمد بن منصور في طريق دعوته، والتقى في مدينة سوهاج بصباغ يدعى ميخائيل، وطرح عليه نقاشات حول المسيحية والإسلام فأخبره بأنه لا يعرف شيئاً في الدين ووصله بقس أرثوذكسي لم ينجح في إقناعه بالمسيحية وقام بوصله بعريف إنجيلي أعمى.
ودارت بين الاثنين مناقشات عدّة حول ماهية المسيح وطبيعته، شعر من خلالها بتفوّق الإسلام. وفي آخر لقاء بينهما، طلب العريف من الشيخ أن يطلب من الله الهداية وإرشاده إلى الحق، فأجابه: “وهل أنا أشك في عقيدتي؟ معاذ الله! إن كل مسلم يطلب من الله الهداية كل يوم خمس مرات في صلواته ودعواته”.

أقوال جاهزة
* عام 1893 ، بدأ الشيخ الأزهري محمد بن منصور بالبحث في أمر الدين المسيحي مدفوعاً بغيرته على الإسلام ورغبةً منه في دعوة المسيحيين إليه… وبعد سنتين كان يزور البابا في روما بعد تحوّله عن دينه

* قصة الشيخ ميخائيل… أزهري تحوّل إلى المسيحية والتقى بالبابا ليون الثالث عشر الذي “قرّبه إليه وباركه وطلب من الله أن يثبته في الإيمان المسيحي، وأهدى إليه جملة من الصور والتحف الثمينة”

استمر الشيخ بالبحث في الأديان وبدأ الشك يتبادر إلى ذهنه وفكّر بأن ليس هناك دين أولى بالاتباع من غيره، وأخذ يتردد على الكنيسة الإنجيلية في الليالي.

حسبما يذكر كامل بن منصور، قرأ الشيخ في هذه الفترة الإنجيل وانحاز تدريجياً إلى المسيحية، حتى كثر اختلاطه بالمسيحيين، وزادت المضايقات له ورماه البعض بالإلحاد والكفر، إلا أن فكرة تحوله أو اعتناقه أفكاراً مغايرة لم تكن ببال أحد، حتى قال في ذلك:

فقد زعموا أني بحبك ملحد/ وأني بتصديقي كتابك كافر
وقالوا مضل جبه الله وجهه/ وأحرمه ميل المنى وهو قادر
فإن كان حب الله جل جلاله/ وتصديقه كفراً فإني كافر

الشيخ ميخائيل
فجأة، أعلن الشيخ محمد بن منصور رغبته في اعتناق المسيحية. وحسبما ذكر كامل منصور، طلب من الكنيسة الإنجيلية في سوهاج أن تعمده، إلا أنها قابلت طلبه بفتور خوفاً من تبعات الأمر، فيما وافق قسيس الأقباط الكاثوليك على تعميده ونقل طلبه إلى البطريركية الكاثوليكية في القاهرة، وكان أن تعمد الشيخ محمد بن منصور في أواخر عام 1894، وأطلق على نفسه اسم ميخائيل، ربما بسبب الصباغ الذي التقى به أول مرة في سوهاج. هكذا أصبح الشيخ ميخائيل منصور.

في آب من العام التالي، سافر الشيخ بصحبة وفد كاثوليكي إلى روما، والتقى البابا ليون الثالث عشر بزيه الإسلامي، وكانت “مقابلة ذات شأن حيث قرّبه إليه وباركه وطلب من الله أن يثبته في الإيمان المسيحي، وأهدى إليه جملة من الصور والتحف الثمينة”، حسبما ذكر كامل منصور.

الغريب في الأمر أن محمد بن منصور، بعدما اعتنق المسيحية واختار اسم ميخائيل لم يترك لقب الشيخ، والأغرب أن العامة، مسيحيين ومسلمين، اشتركوا في مناداته بالشيخ ميخائيل.

حياة الشيخ الجديدة
اقتصرت حياة الشيخ ميخائيل لاحقاً على الدراسة والتعليم في مدرسة كلية الجزويت. راح يعلم المرسلين الأميركيين اللغة العربية، وكان يريد دائماً أن يمارس التبشير، حتى أنه عقد اجتماعاً لبعض المسلمين في كنيسة الأزبكية.
وينقل كامل منصور أن الشيخ ميخائيل ناظر عدد غير قليل من الشيوخ المسلمين ولم يثر ذلك الضغينة بينهم لأنه كان يصيغ حججه “في قالب كله محبة ولطف ودعة واحترام لمَن يناظره فاكتسب محبة أكثرهم”.
وذكر كامل منصور أنه في السنة الأولى من تنصر الشيخ ميخائيل طلب أهله منه ألا يمضي الخطابات التي يرسلها إليهم بـ”ميخائيل منصور” ويستبدل ذلك بـ”م.م.” حتى يغالط الناس باعتبارها كناية عن محمد منصور إلا أنه رفض ذلك، بدعوى عدم التشكك في إيمانه الجديد.

ما أحدثه الشيخ
قصة الشيخ ميخائيل تُعرف في سوهاج بأنها من قصص التراث ويختلف حولها الكثيرون، حسبما يقول جمال علي، أحد أحفاد الشيخ علي بدر. ويضيف لرصيف 22 أن أخبار تنصر الشيخ محمد بن منصور انتشرت في سوهاج، وجاء الناس أفواجاً إلى منزل والده، ليتأكدوا من الأمر، وبعد ذلك سافر والده إلى القاهرة ليتأكد من المسألة. ويشير إلى أن “أهل القرية غضبوا كثيراً بعدما شاع بين الناس أن العالم الشيخ محمد بن منصور اعتنق المسيحية، فهي بمثابة ضربة للمسلمين وانتصار للمسيحيين”. ويذكر شقيقه أن شيخه علي بدر بكى حين عرف بالأمر وقال: “لا يوجد عندنا غيره في علمه ومقدرته، اللهم لا تحقق ما سمعناه”.

هل تصوّف الشيخ؟
من وجهة نظر الدكتور حسام الدين بدر، فإن محمد بن منصور قرأ كتب التصوف الفلسفية عند المسلمين وأُعجب بفكرة شيخ الصوفية الأكبر محي الدين بن عربي، عندما أعلن مبدأ “القلب الاستيعابي” أو “القابل لكل صورة”.
وكان ابن عربي قد “قصد بذلك وحدة الدين لا الأديان، بمعنى المصدر الواحد للدين، أي الدين في صورته النقية كما نزل”، يقول بدر.
ومن أبيات ابن عربي في كتابه “ترجمان الأشواق :

قد صار قلبي قابلاً كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائـفٍ/ وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهتْ/ ركائبه فالحب ديني وإيماني

ويرى بدر أن ابن منصور” اعتقد أن لكل دين حجيته، التي تدفع أصحابها إلى التمسك بها. وعليه فإن قناعته هذه أدت إلى اعتباره أن أديان الوحي تتلاقى في نقاط مشتركة تكون منطلقاً لوحدتها، ومن ثم أطلق على نفسه لقب ‘الشيخ ميخائيل’ تجسيداً لهذه الفكرة التي أُعِدُّها من قبيل الشطح الصوفي”. ويضيف أن “محمد منصور كان متبنياً لفكرة وحدة الأديان السماوية” ولم يتنصر “والقول بتنصره لم يكن إلا نوعاً من أسطرة الحدث”. وتابع: “اتته فكرة وحدة الأديان التي تتبنى القول إن كل الأديان والعقائد مقبولة عند الله، وإن أية عقيدة ودين سيفضي إلى طريق يوصل إلى رضى الله، مهما تباينت محتويات تلك الأديان”.

وعليه، برأي بدر، “لم يرتدّ الشيخ، وبالتالي لم تكن هناك ردود فعل غاضبة جامحة من جموع طلبة العلم والمجتمع آنذاك”. ويدلل على رأيه بانتقال الشيخ إلى القاهرة واصطحابه معه أسرته بما فيها زوجته، و”إنْ كان قد ارتد فعلاً لفُرِّق بينه وبين زوجته”.

ويذكر أيضاً أن محمد بن منصور “كان يزور عائلته في سوهاج، وإن كان لم يزر بلدة بلصفورة التي تعلم فيها لغضب شيخه عليه”.

في نهاية حياته، أصيب الشيخ ميخائيل بمرض الزلال وتسمم جسمه وتوقفت كليتيه عن العمل حتى توفي يوم 29 ايار 1918، ودفن في إحدى مقابر الكاثوليك.