Beirut weather 16.88 ° C
تاريخ النشر December 9, 2025
A A A
الشتاء والنفايات في لبنان: مأساة متكررة بين الإهمال البيئي والصحي
الكاتب: شانتال عاصي - الديار

 

 

تحولت النفايات المرمية في شوارع لبنان، في بعض المناطق، من مشكلة يومية إلى أزمة متفاقمة خاصة في فصل الشتاء. ففي حين يفترض أن تكون مصافي المياه قادرة على تصريف مياه الأمطار، فإن النفايات المنتشرة في الشوارع تقوم بسد هذه المصافي، مما يؤدي إلى تجمع المياه واغراق الطرقات. ومع هطول أمطار الشتاء، تتضاعف معاناة المواطنين الذين يجدون أنفسهم محاصرين بمياه ملوثة وأحياء تغرق جزئيًا، لتصبح هذه الظاهرة مصدرًا للنقمة على السكان بدلاً من كونه موسمًا يجلب الحياة والخير.

الشتاء يتحول إلى نقمة

تتحول الأمطار في لبنان، التي من المفترض أن تسقي الأرض وتنعش الطبيعة، إلى مشكلة حقيقية نتيجة تراكم النفايات. فالأحياء المغمورة بالمياه المتسخة تتعرض لمخاطر متعددة، من بينها تعطّل حركة المرور، صعوبة وصول سيارات الإسعاف والدفاع المدني إلى الأماكن المتضررة، وإعاقة الطلاب والعمال عن الوصول إلى مدارسهم وأماكن عملهم. هذه المشاهد تتكرر كل شتاء، لتؤكد فشل المعالجة الحقيقية لأزمة النفايات التي طال أمدها منذ سنوات.

لا تتوقف تداعيات النفايات عند مجرد الإزعاج البصري أو اغراق الشوارع، بل تمتد لتشمل البيئة بشكل واسع. إذ تعمل النفايات على منع تصريف المياه، ما يؤدي إلى تجمعها وخلق مستنقعات مؤقتة في الشوارع. هذه المستنقعات تصبح بيئة خصبة لتكاثر الحشرات والجراثيم، وتزيد من احتمال انتشار الأمراض. كما تؤدي المواد البلاستيكية والمعادن الملقاة في الشوارع إلى تلوث التربة والمياه، خاصة عندما تجرف الأمطار هذه المواد نحو الأنهار والجداول، ما يضر بالنظم البيئية المحلية ويؤثر سلبًا على الحياة البرية.

المخاطر الصحية والبيئية للمواطنين

يتحمل المواطن اللبناني العبء الأكبر لأزمة النفايات المرمية في الشوارع، ليس فقط على صعيد الراحة اليومية، بل على صحته العامة والبيئة المحيطة به. فالمياه الراكدة الناتجة عن انسداد المصافي تحمل في طياتها مستعمرات من البكتيريا والطفيليات التي تسبب أمراضًا عديدة، مثل الإسهال، التسمم الغذائي، والأمراض الجلدية، وتزداد هذه المخاطر مع تراكم الأمطار. ليس هذا فحسب، بل إن تجمع القمامة في الشوارع يحول أحياء بأكملها إلى بؤر تلوث، إذ تتصاعد الروائح الكريهة والدخان الناتج عن حرق النفايات في بعض المناطق، ما يفاقم تلوث الهواء ويشكل تهديدًا مباشرًا للجهاز التنفسي، خصوصًا لدى الأطفال وكبار السن والمرضى الذين يعانون من مشاكل صحية مزمنة.

ولا تتوقف المشكلة عند هذا الحد، إذ تتحول المياه الراكدة إلى بيئة خصبة لتكاثر الحشرات، مثل البعوض، الذي ينقل الأمراض الاستوائية والموسمية، ويزيد من انتشار الحمى والفيروسات. كما أن المواد البلاستيكية والمعادن والزيوت الملوثة التي تتخلل هذه المياه تدخل في دورة التربة والمياه السطحية والجوفية، مسببة تلوثًا طويل الأمد للنظام البيئي. هذا التلوث البيئي يمتد أثره إلى النباتات والحيوانات المحلية، ما يضعف التنوع البيولوجي ويؤثر على سلاسل الغذاء الطبيعية، ويجعل المواطن في مواجهة دائمة مع مخاطر بيئية وصحية مترابطة.

في ظل هذه الظروف، تصبح مجاري الصرف الصحي المفتوحة والمياه الراكدة بمثابة قنابل موقوتة تهدد الصحة العامة، وتزيد من احتمالية تفشي الأمراض المعدية في فصل الشتاء، ما يفرض على المجتمع والحكومة ضرورة التدخل السريع لمعالجة هذه الأزمة قبل أن تتحول إلى كارثة بيئية وإنسانية حقيقية. الحل لا يقتصر على إزالة النفايات، بل يمتد إلى تبني استراتيجيات بيئية متكاملة، تشمل إعادة التدوير، تحسين إدارة النفايات، وتنظيف المصارف بشكل دوري لضمان حماية الصحة العامة والبيئة معًا.

نحو حلول عاجلة ومستقبلية

تتطلب أزمة النفايات المرمية في الشوارع استجابة عاجلة ومنسقة من السلطات المحلية والمجتمع المدني على حد سواء، ليس فقط لمعالجة الأضرار الفورية، بل لضمان حماية البيئة والصحة العامة على المدى الطويل. من الضروري تطوير نظام فعال ومستدام لجمع النفايات قبل موسم الشتاء، يشمل جداول دورية وجمع آلي للنفايات المنزلية والصناعية على حد سواء، مع تنظيف منتظم للمصارف والمجاري لمنع انسدادها وتجمع المياه الملوثة.

إلى جانب البنية التحتية، يجب تعزيز التشريعات الصارمة المتعلقة بالرمى العشوائي للنفايات، مع فرض غرامات رادعة على المخالفين، لضمان احترام المواطن والجهات المصدرة للمعايير البيئية. كما أن نشر التوعية بين المواطنين حول أهمية الحفاظ على نظافة الشوارع وتأثير ذلك على البيئة والصحة يمكن أن يحد بشكل كبير من تراكم النفايات، ويعزز شعور المسؤولية البيئية لدى الأفراد والمجتمع ككل.

كما يجب أن تكون الاستراتيجيات المستقبلية شاملة، مع التركيز على إعادة التدوير، معالجة المخلفات العضوية، والتقليل من النفايات البلاستيكية، إذ يساهم ذلك في حماية التربة والمياه السطحية والجوفية من التلوث ويحد من المخاطر الصحية الناجمة عن المواد الكيميائية الضارة. علاوة على ذلك، فإن دمج الابتكارات البيئية، مثل المحارق النظيفة والنظم الذكية لإدارة المخلفات، يسهم في تقليل الانبعاثات الضارة وحماية جودة الهواء، ما يعزز صحة السكان ويقلل من الضغط على النظام البيئي.

إلى ذلك، تبقى النفايات المرمية في شوارع لبنان واحدة من أبرز مظاهر الإهمال البيئي، التي تتحول في فصل الشتاء إلى مأساة يومية تؤثر على حياة السكان وصحة البيئة بشكل مباشر. فالمياه الراكدة الناتجة عن انسداد المصارف والمجاري تخلق مستنقعات ملوثة، تزيد من تكاثر الحشرات والجراثيم، وتصبح مصدرًا للأمراض المعدية. كما تؤدي المواد البلاستيكية والمعادن والزيوت الملقاة عشوائيًا إلى تلوث التربة والمياه السطحية والجوفية، ما يضر بالنظام البيئي ويضعف التنوع الحيوي المحلي. هذه الحلقة المترابطة بين النفايات، المياه الملوثة، والبيئة تؤكد أن الأزمة ليست مجرد منظر مزعج في الشوارع، بل تهديد شامل للصحة العامة والاستدامة البيئية.

إن الوقاية المبكرة والتنظيف المستمر يشكلان خط الدفاع الأول لتخفيف آثار هذه الأزمة. ويشمل ذلك وضع جداول دورية لجمع النفايات قبل موسم الشتاء، وتنظيف المصارف والمجاري، وتفعيل أنظمة إعادة التدوير ومعالجة المخلفات العضوية لتقليل المواد البلاستيكية والملوثات الكيميائية. كما أن تطبيق الرقابة الصارمة على الرمي العشوائي للقمامة وفرض غرامات رادعة يعزز من التزام المواطنين والمؤسسات بالقوانين البيئية، ويشجع على السلوكيات المستدامة.

ولا يقل وعي المجتمع أهمية عن الإجراءات الرسمية، إذ يمكن للحملات التوعوية والمبادرات المجتمعية أن تعزز شعور المسؤولية البيئية لدى الأفراد، وتشجع على المشاركة في الحفاظ على نظافة الشوارع، وحماية الموارد الطبيعية. من خلال الجمع بين الإدارة الفعالة للنفايات، التشريعات البيئية، والتثقيف المجتمعي، يمكن تحويل الشتاء في لبنان من موسم مأساوي إلى فصل ينعش البيئة ويضمن صحة السكان، ويصبح نموذجًا لاستدامة بيئية حقيقية تعكس قدرة المجتمع على حماية نفسه وموارده الطبيعية.