Beirut weather 16.88 ° C
تاريخ النشر June 19, 2024
A A A
السماء تمطر بالنار… كيف غيّر الفوسفور الأبيض وجه جنوب لبنان؟
الكاتب: أمل سيف الدين

كتبت أمل سيف الدين في جريدة “الديار”

في جنوب لبنان، تلك الأيام كانت توشك على أن تُصبح واحدة من أكثر الفترات تدميرا وكارثة في تاريخها الحديث.

 

حرب بين العدو الاسرائيلي وحزب الله اشتعلت، ومعها اندلعت النيران الحارقة لقذائف الفوسفور الأبيض، التي تسقط من السماء كالنجوم المتلألئة، تلتهم كل شيء في طريقها، من الحقول الخضراء إلى المباني السكنية، تاركة وراءها أنقاضاً مشتعلة وأرواحاً مُزهرة.

 

 

في ظل هذا النزاع الحاد بينهما، تجد القنابل الحارقة من الفوسفور الأبيض طريقها إلى كل زاوية من زوايا الجنوب، تحول الليالي الهادئة إلى ساعات من الخوف والهلع، حيث يلتهم اللهب كل ما يصادفه في طريقه، ويملأ الدخان الكثيف الأفق.

سلاح حارق يُثير الجدل ويُهدّد الحياة

خبيرة البيئة الدكتورة فاطمة العلي، المختصة في علوم الكيمياء وكيمياء الغلاف الجوي، تحدثت الى “الديار” بتفصيل دور وتأثير قنابل الفوسفور الأبيض. واكدت أن هذه القنابل هي أسلحة عسكرية تحتوي على مادة الفوسفور الأبيض كمكون رئيسي. وأوضحت أن الفوسفور الأبيض هو مادة كيميائية تتكون من مادة تحتوي على أربع ذرات فوسفور مرتبة في شكل هرمي، ويتميز بخصائصه الشديدة التفاعل مع الأكسجين، حيث يحترق بسرعة عند تعرضه للهواء. وهو شكل من أشكال الفوسفور النقي، يتميز بأنه شمعي الملمس ولونه أبيض مائل للاصفرار، وينتج لهبًا شديد الحرارة ودخانًا أبيض كثيفًا.

فقنابل الفوسفور الأبيض تتكون من عدة مكونات رئيسية تشمل الفوسفور الأبيض ذاته، وبعض الغازات المساعدة على الاشتعال مثل الأكسجين المضغوط، والمواد القابلة للاشتعال الأخرى التي تُضاف لتحسين قدرات القنبلة الحارقة. يتم تغليف هذه المواد في غلاف معدني يضمن انفجار القنبلة عند الوصول إلى الهدف، مُطلقة الفوسفور الأبيض.

عند إطلاق القنبلة من المدفعية أو الطائرات أو حتى يدويا، ينفجر الغلاف الخارجي عند الوصول إلى الهدف أو بعد فترة زمنية محددة، مُطلقة الفوسفور الأبيض في الهواء. وذكرت العلي أن الفوسفور الأبيض يتفاعل بسرعة مع الأكسجين، مما يسبب اشتعالًا شديدًا ينتج عنه لهب وحرارة عالية تصل إلى 800 درجة مئوية أو أكثر، بالإضافة إلى دخان أبيض كثيف يتكون بشكل رئيسي من خامس أكسيد الفوسفور، الذي يمكن أن يتحول عند ملامسته للرطوبة إلى حمض الفوسفوريك.

وأشارت إلى أن الفوسفور الأبيض يتميز بقدرته على الاحتراق المستمر حتى يتم استهلاكه بالكامل أو يُقطع عنه الأكسجين، مما يسبب حروقًا شديدة عند ملامسته للجلد وقد يخترق الأنسجة العميقة. كما أن استنشاق الدخان الناتج يمكن أن يسبب تهيجًا شديدًا للجهاز التنفسي.

تقول العلي أن الفوسفور الأبيض يُستخدم في الأغراض العسكرية لإنتاج ستائر دخانية، إشارات الإضاءة، أو كسلاح حارق. ومع ذلك، فإن استخدامه يُعد مثيرًا للجدل وغالبًا ما يكون محظورًا ضد الأهداف المدنية بموجب القانون الدولي الإنساني، نظرًا لتأثيراته الكارثية على البشر والممتلكات.

من سلاح حربي الى جدل إنساني عبر العصور

أول استخدام للفوسفور الأبيض يعود إلى القرن التاسع عشر، تحديداً خلال الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865). في تلك الفترة، تم استخدام الفوسفور الأبيض في قذائف المدفعية والقنابل الحارقة.

توسع استخدام الفوسفور الأبيض بشكل ملحوظ خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والحرب العالمية الثانية (1939-1945). في هذه الحروب، تم استخدام الفوسفور الأبيض بشكل واسع في القنابل والقذائف لإنتاج ستائر دخانية، إضاءة ساحات القتال، وحرق مواقع العدو.

منذ ذلك الحين، أصبح الفوسفور الأبيض جزءًا من الترسانة العسكرية في العديد من الجيوش حول العالم، واستُخدم في العديد من النزاعات المسلحة. ولكن مع مرور الوقت، أصبح استخدامه موضع جدل كبير بسبب تأثيراته الكارثية على المدنيين والبنية التحتية، مما أدى إلى دعوات متزايدة لحظره بموجب القانون الدولي الإنساني.

تاريخ من الدمار والجدل

أول استخدام مسجل للفوسفور الأبيض في النزاعات التي جرت في الدول العربية يعود إلى حرب الاستنزاف بين مصر و”إسرائيل” (1967-1970). خلال هذه الحرب، استخدم الفوسفور الأبيض كجزء من القنابل والقذائف الحارقة من قبل قوات العدو الإسرائيلية.

لاحقاً، تم استخدام الفوسفور الأبيض في العديد من النزاعات في المنطقة، بما في ذلك الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، حيث تم توثيق استخدامه من قبل القوات “الإسرائيلية” في هجماتها على جنوب لبنان. أحد أبرز الأمثلة على استخدام الفوسفور الأبيض كان خلال الحرب “الإسرائيلية” على لبنان في عام 2006، حيث تم الإبلاغ عن استخدامه في القنابل الحارقة ضد مواقع حزب الله ومناطق مدنية، مما أدى إلى جدل واسع وإدانات دولية.

أما في سياق الحرب الحالية بين حزب الله و”إسرائيل”، تم الإبلاغ عن استخدام الفوسفور الأبيض في عدة هجمات على مناطق جنوب لبنان. وتعتبر هذه الهجمات جزءا من تصعيد واسع للأعمال العدائية التي تشهدها المنطقة. فالفوسفور الأبيض، المعروف بخصائصه الحارقة والدخانية، يتم استخدامه لتوليد ستائر دخانية لتغطية التحركات العسكرية وأيضًا كأسلحة حارقة تسبب أضرارًا كبيرة.

جنوب لبنان تحت النار:

آثار الفوسفور الأبيض في النزاع المستمر

في قلب جنوب لبنان، تبرز صور مأساوية من مناطق تأثرت بشدة باستخدام الفوسفور الأبيض، حيث شهدت بعض القرى والبلدات تدميرًا واسع النطاق، وآثارا مدمرة لا تزال تتردد أصداؤها حتى اليوم.

مثلاً في بلدة مارون الراس، كانت الأجواء مشحونة بالدخان والحرائق التي ألهبت المنازل والمزارع. لقد كان هذا المكان هادئًا قبل أن تتحول ليلته إلى جحيم بفعل قذائف الفوسفور الأبيض. والسكان المحليون يتحدثون عن حرائق شديدة لم يكن من السهل إخمادها، وعن دخان كثيف جعل التنفس أشبه بالكابوس. لم يكن من السهل الفرار، ومع كل لحظة يزداد الوضع سوءًا.

أما في قرية بنت جبيل، فقد شهدت أيضًا أهوالاً متعددة نتيجة لهذه الهجمات. لم تقتصر الأضرار على المباني والبنية التحتية، بل تجاوزتها لتصيب المدنيين مباشرة. القذائف الحارقة حولت المباني السكنية إلى أنقاض وألحقت أضرارًا جسيمة بالمدارس والمستشفيات. أما الإصابات كانت كثيرة، ومعظمها نتيجة للحروق الشديدة التي تسببها هذه المادة القاتلة.

وفي بلدة النبطية، التي تعتبر من المراكز الحضرية الرئيسية في الجنوب، لم يكن الوضع أفضل حالًا. فالهجمات بالفوسفور الأبيض أدت إلى تلوث الهواء بشكل خطير، مما جعل التنفس تحديًا يواجهه الجميع. كما أن الدخان الناتج عن القذائف الحارقة انتشر في كل مكان، مسببًا حالات اختناق وتهيج في الجهاز التنفسي، تاركًا السكان في حالة من الذعر والهلع.

علاج الضحايا … ما يجب معرفته لإنقاذ الأرواح!

تحدث الدكتور علي الجباوي الى “الديار” عن الإجراءات الطارئة اللازمة للتعامل مع المصابين جراء الفوسفور الأبيض. فأشار إلى أن التعامل مع هذه الإصابات يتطلب سرعة وفعالية لتقليل الأضرار والحفاظ على حياة المصابين. تبدأ الخطوة الأولى بإخلاء المنطقة وإبعاد المصاب عن منطقة الخطر إلى مكان آمن لتجنب المزيد من التعرض للفوسفور الأبيض. يجب بعد ذلك إزالة الملابس التي تعرضت للمادة بحذر شديد لتجنب ملامسة الفوسفور الأبيض للجلد. وأوضح الدكتور أنه يجب تجنب استخدام الماء مباشرة لأن ذلك يمكن أن ينشط الفوسفور الأبيض ويزيد من شدة الاحتراق. بدلاً من ذلك، يمكن محاولة إزالة المادة باستخدام أدوات غير معدنية مثل ملعقة بلاستيكية أو مواد جافة مثل الرمل أو الطين.

بعد إزالة الفوسفور الأبيض، يمكن تبريد الحروق باستخدام محلول ملحي بارد، مع تجنب استخدام الماء العادي مباشرة على الحروق التي قد لا تزال تحتوي على الفوسفور الأبيض النشط. إذا كان المصاب يعاني من صعوبة في التنفس بسبب الدخان أو استنشاق المواد الكيميائية، ينبغي نقله إلى منطقة ذات هواء نقي وتوفير تهوية جيدة له.

وأكد لجباوي على ضرورة الاتصال بخدمات الطوارئ فورا وطلب المساعدة الطبية العاجلة، حيث أن الحروق الكيميائية الناتجة عن الفوسفور الأبيض تحتاج إلى رعاية طبية متخصصة. في المستشفى، يجب أن يقوم الأطباء بتنظيف وتعقيم الحروق بطرق متخصصة، غالبا باستخدام محلول ملحي معقم، وقد تُستخدم مواد خاصة لتعطيل الفوسفور الأبيض وتقليل امتصاصه في الجلد. وأوضح أن المصابين سيحصلون على علاجات مثل المضادات الحيوية لمنع العدوى ومسكنات الألم، وقد يحتاج البعض إلى جراحة لترميم الأنسجة المتضررة.

وختم الجباوي حديثه بتأكيد أهمية مراقبة حالة المصاب العامة مثل النبض والتنفس وضغط الدم باستمرار، لأن حالة المصاب يمكن أن تتدهور بسرعة بسبب السموم الناتجة عن الفوسفور الأبيض. وأشار إلى أن التعامل مع إصابات الفوسفور الأبيض يتطلب الحذر الشديد والمعرفة بالإجراءات الصحيحة، ويجب أن يكون الهدف الأساسي هو تقليل الأضرار ومنع المزيد من الإصابات حتى يصل الدعم الطبي المتخصص.

بين الجدل الدولي والحظر العالمي

في عالم متشابك بالصراعات والتحديات الجيوسياسية، يثير الفوسفور الأبيض جدلاً دولياً حاداً. هذه المادة، التي تستخدم في الأصل لأغراض صناعية وعسكرية، أصبحت محل نقاش دولي واسع النطاق بفضل تأثيراتها القاتلة والمدمرة على البشرية.

فقد تم تصنيف الفوسفور الأبيض كسلاح كيميائي بموجب اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، وذلك بسبب قدرته الفائقة على التسبب في حروق بالغة الخطورة للجلد والأنسجة، وبسبب تأثيراته السامة التي يمكن أن تؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة للأفراد المتضررين منه.

ومع ذلك، تثير استخداماته السابقة في بعض النزاعات والحروب تساؤلات حول فعالية تطبيق الحظر الدولي والتزام الدول بهذه الاتفاقيات الدولية. فهل يمكن منع استخدام الفوسفور الأبيض تماماً؟ وما هي الآليات المتاحة لمعاقبة الدول أو الجماعات التي تخرق هذه القوانين الدولية؟

بين دعوات لتشديد الرقابة والتنظيم الدولي على استخدام الفوسفور الأبيض، وبين معارضين يرون في القضية حجة للحروب الدائمة، يستمر النقاش في تحديد المصير الدولي لهذه المادة المثيرة للجدل، التي تجسد صراع الإنسان مع حدود الحضارة والتطوير التكنولوجي.

وفي غمرة الدمار والدخان، تبقى صور الفوسفور الأبيض المتلاطمة في سماء جنوب لبنان تذكيرا بمأساة لا تنسى. لقد ترك هذا السلاح الحارق آثارًا عميقة على الأرواح والبنية التحتية، وأشعل نقاشًا مستمرًا حول أخلاقيات استخدامه في النزاعات الحديثة. بينما تواصل المجتمع الدولي التأمل في تأثيراته، يبقى سؤال الإنسانية والقانونية يطرح نفسه بقوة: هل يجب أن يُحرم استخدام الفوسفور الأبيض بكل أشكاله تحت أي ظرف؟