Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر June 26, 2016
A A A
الخروج البريطاني من «الاتحاد» صفعة أم صحوة؟
الكاتب: نصري الصايغ - السفير

ما كان محتملاً بات واقعاً. ما كان يُخشى منه قد حصل. بريطانيا العظمى خرجت من الاتحاد الأوروبي بجدارة استفتاء شعبي وبنسبة مشاركة عالية من قبل ناخبي المملكة المتحدة. الجزيرة التي نشأت وحيدة ومنفصلة عن أوروبا، عادت إلى وحدتها وانفصالها، بعيداً عن الاتحاد الأوروبي.

الحدث زلزال. أوروبا اهتزّت والارتدادات كثيرة: خوف من موجة استفتاءات في دول كثيرة بنية الخروج من الاتحاد. التطمينات الرسمية التي جاءت رداً على نتائج الاستفتاء، هي جرعات غير كافية ولا تخفف من منسوب المخاوف التي اجتاحت البورصات العالمية وإدارات المصارف في أوروبا. الهبوط في الأسهم كارثي. من تداعيات هذا الزلزال، أنه قدّم هدية ثمينة لليمين المتطرف والمتربّص بالوحدة الأوروبية من زمان، بحجة فقدان السيادة القومية وأمواج المهاجرين، أكَلة أرغفة الأوروبيين. سيتقدّم اليمين المتطرف باقتراحات لإجراء استفتاءات، وهو يراهن على أن الريح مؤاتية للخروج من الاتحاد.

قد يحصل أفدح من ذلك. خريطة بريطانيا السياسية قد تتعدَّل، ويمكن أن تخسر إيرلندا الشمالية واسكتلندا. خيار إيرلندا الشمالية الذي عبرت عنه صناديق الاستفتاء هو البقاء في الاتحاد الأوروبي، ونتائج اسكتلندا أيدت الاستمرار في عضوية الاتحاد حتى لو خرجت بريطانيا. قد يحصل أن يتنامى الشعور العام بضرورة توجيه الضربات لهذا الاتحاد. فأوروبا قد خسرت، والخوف من خسائر جسيمة أخرى. القلعة لم تعُد حصينة. ستصوَّب عليها السهام من اليمين المتطرف واليسار كذلك.

هل تقول أوروبا غداً، وداعاً ديغول.. وداعاً ايديناور؟ يصعب ذلك. لقد وفّرت أوروبا الموحّدة مناخاً سلمياً طوال ثلاثة أرباع قرن، وهي الساحة التي أشعلت في ربع قرن فقط، حربين عالميتين طاحنتين ومدمرتين، أخذت البشرية إلى شفير هيروشيما وناكازاكي. السلام الأوروبي الذي كان صعباً جداً طوال القرن التاسع عشر، تحقق على يدي «العدوين» ديغول الفرنسي وايديناور الألماني. هذان أقاما بناءً أوروبياً متدرجاً يقول وداعاً للحرب بين دوله. وهذا مكسب أيضاً أعطى أوروبا فرصة بناء اتحاد من 28 دولة، بات اليوم مؤلفاً من 27 دولة فقط.

هل هذا يعني أن أوروبا ذاهبة إلى صدامات وحروب؟ لا يبدو ذلك في الأفق. الاعتراض لا ينصب في مجمله على مبدأ الاتحاد، بل على شكل هذا الاتحاد ومضمونه. هذا النمط أثبت انحيازه إلى الأقوياء ضد الضعفاء، إلى المصارف لا إلى الدول، إلى الأسواق العملاقة ضد الأسواق المحلية. بدا الاتحاد أنه لصالح الدول الغنية أكثر من الدول الفقيرة والمتوسطة، وأنه بتبنيه العولمة بصيغتها النيوليبرالية، حوّل أوروبا مشاعات تتحكّم بها الأسواق والمصارف المركزية، ما أفقد الدول القومية سيادتها وجوَّف الديموقراطية عبر تحويل الانتخابات عملية اقتراع فاشلة، تنتج سلطة محكومة، غير حاكمة، من قبل رؤساء ومدراء مصارف، معيّنين لا منتخبين، وفوق المساءلة والمحاسبة وبرواتب كوكبية. فلا سلطة سياسية خارج الشرعية المالية الحاكمة، وهذه هي صاحبة الأمر والنهي في معظم ما يتعلق بالموازنات الوطنية والحدود المسموحة للدين العام والعجز، إضافة إلى تدخلها الحاسم والمعادي للسياسات الاجتماعية العادلة نسبياً.

الناخب الأوروبي، باستثناء اليمين المتطرف، هو ضد هذه الوحدة تحديداً. حتى الذين ما زالوا مع الاتحاد الأوروبي، يصوِّبون النقد لطبيعة وصيغة وسياسات هذا الاتحاد. رئيس «حزب العمال» البريطاني جيريمي كوربين حذّر من أوروبا الاستغلالية التي تحوِّل الدول الصغيرة مستعمرات تُلقى على أكتافها أثقال الديون، وتقفل أمامها آفاق المستقبل. ويلزم أن ننبه إلى أن تحديد السياسات الاقتصادية هي لصالح قبضة من المصارف. صيغة الاتحاد أنه للأغنياء فقط، فيما حصة الفقراء هي الفتات والخوف من البطالة ومن خسارة المكتسبات الاجتماعية، عبر التحريض على الخصخصة، وعلى قوانين عمل جديدة تبخس العمال حقوقهم، لصالح تأمين مناخات استثمارية مجزية لأصحاب الرساميل العملاقة.

الخوف على أوروبا الموحّدة، سبقه الخوف منها. فهي أظهرت عجزاً في حل المشكلات الأمنية والسياسية والاجتماعية، وفي حل مشكلتين فائضتي الأهمية: ديون الدول الفقيرة، كاليونان، وحل مشكلة اللاجئين الذين يتدفقون من مناطق القتل والبؤس إلى الضفاف الأوروبية. أوروبا الموحدة ضد كل تحرك شعبي مطلبي. لا تُقدم على خطوة باتجاه عدالة اجتماعية. وكيف تقدم على ذلك، وبعض قادة الاتحاد، هم من دول الجنّات الضريبية التي تمنح اللجوء السري لحسابات كبار هذا العالم وأثريائه الذين يتهرّبون من دفع الضرائب في بلدانهم؟ وفي رأي مناهضي العولمة وأوروبا الموحدة، أن الأزمة ليست في نقصان الفوائض المالية، بل في سوء توزيعها واستثمارها في الحقول التنموية كافة.

أوروبا الواثقة، باتت اليوم خائفة. إذا راجعت حساباتها تراجعت، وإذا عاندت اصطدمت بالمزيد من الانسحابات.
هل هي بداية النهاية؟ ليس أكيداً. شمس أوروبا ليست دائماً مشرقة. وقد يكون الغروب لصالح دول قوية داخــل الاتحاد، ولصالح روسيا وأميركا من الخارج.