Beirut weather 23.41 ° C
تاريخ النشر July 2, 2017
A A A
الحرب التي ابتلعت الخلافة الداعشيّة والدولة العراقيّة معاً
الكاتب: جورج عيسى - النهار

يلفظ داعش أنفاسه الأخيرة في العراق على بعد أيّام قليلة من إعلان الموصل مدينة محرّرة بحسب مسؤولين عراقيين وأميركيّين. لا يعني هذا الخبر في أيّ حال من الأحوال انتفاء قدرة التنظيم على شنّ مزيد من الهجمات داخل أو حتى خارج العراق. لكنّ الواقع الجديد يحمل طابعين لا يمكن الجدال في حقيقتهما. الأوّل عمليّ ويتلخّص في تفكيك التنظيم إلى جيوب مبعثرة من المقاتلين الهاربين والفاقدين للقدرة على التواصل والتنسيق. أمّا الثاني فرمزيّ ويتمثّل بسقوط المدينة التي أعلن منها التنظيم قيام الخلافة المزعومة. ولعلّ مركز ثقل هذه الرمزيّة يتجلّى في دخول الجيش العراقي والميليشيات الموالية له إلى مسجد النوري الذي ألقى فيه البغدادي خطبته الأولى في 4 تمّوز 2014. ومع السيطرة على المسجد، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي “نهاية دولة داعش”.

عندما خيّم شبح الهزيمة النهائيّة فوق رؤوس مقاتلي التنظيم، قام هؤلاء بتفجير منارة الحدباء التابعة لجامع النوري في المدينة القديمة، حين كانت القوات العراقية على بعد عشرات الأمتار من المسجد، في 21 حزيران الماضي. للحدث أيضاً دلالاته الحضارية والتاريخية إلى جانب تلك الدينيّة. فالجامع بناه الأمير نور الدين زنكي في سبعينات القرن الثاني عشر بعدما أسّس والده عماد الدين زنكي دولته بدءاً بمدينة الموصل نفسها بين عامي 1127 و 1262. وتعرّض المسجد للدمار على مرّ السنوات خصوصاً مع المغول بعد حوالي قرن على بنائه، لكنّ منارته بقيت سليمة. واستنكرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والفنون “اليونيسكو” ذاك التفجير معتبرة إيّاه “مأساة ثقافية وإنسانيّة”.

التحرير لا يعني الحياة
جغرافيّاً، يقع الجامع في القسم الغربي من الموصل، القسم الذي شهد أعنف معارك الشوارع وأطولها (8 أشهر) ضدّ داعش. أمّا القسم الشرقي من المدينة والذي تمّ تحريره في شباط الماضي فقد استغرق طرد التنظيم منه حوالي ثلاثة أشهر فقط. لكن بغضّ النظر عن التقدّم الذي أحرزته القوّات العراقيّة مدعومة من طائرات التحالف الدولي، ترى نانسي يوسف، مراسلة موقع “بازفيد” الأميركي أنّه “من المبكر جدّاً إعلان الانتصار على داعش”. ومع ذلك، لفتت إلى أنّ الناطق باسم قوات التحالف الدولي العقيد راين دايلون تحدّث عن المعارك المقبلة مشيراً إلى أنّ الحكومة العراقية هي التي ستقرر وجهتها والتي يرجح أن تكون تلعفر والقائم والحويجة. وأضافت يوسف أنّ طريقة خوض المعارك السابقة ضدّ داعش في مناطق عراقيّة أخرى، فشلت في إعادة تلك المناطق إلى مدن مأهولة مجدّداً.

هذا التوصيف يجد مبرّراته في عدد من التحليلات الغربيّة. جايكوب روجرز كتب في موقع “ميليتاري تايمس” الأميركي أنّ “التحرير لا يعني الحياة”. واستند إلى تقرير صادر عن “مركز مكافحة الإرهاب” شمل 16 مدينة عراقية من تاريخ تحريرها وحتى نيسان 2017 قد تعرّضت إلى هجمات مضادّة من داعش. ومن بين هذه المدن، برز شرق الموصل كالأكثر عرضة لهجمات التنظيم بعد التحرير وبمعدّل 130 هجوماً في الشهر الواحد.

المعركة الأصعب
لا بدّ لهذه الوقائع من أن تتقاطع بمعظمها عند مفترق طرق المعركة الأصعب: بناء السلام خلال فترة ما بعد التحرير. وتبرز التحدّيات الأمنيّة والاجتماعيّة على رأس سلّم الأولويّات في إعادة الأمن والإعمار إلى المدن المحرّرة. أمنيّاً، تعاني القوّات العراقيّة والميليشيات الموالية لها من نقص في العدد لتغطية المساحات العراقيّة الشاسعة التي تمّ تحريرها أو تلك التي يمكن أن يلجأ إليها مقاتلو داعش للاحتماء أو من أجل التحضير لشنّ عمليّات جديدة. وتمدّد زائد عن حدّه لتلك القوّات، كما هو حاصل حاليّاً، يقلّص من احتمالات فرض الأمن على نطاق واسع. أمّا على صعيد توطيد أواصر المجتمعات العراقيّة المفكّكة، فالتعقيدات كثيرة لأنّها تبدأ بالأعداد الكبيرة للنازحين خارج مدنهم المهدّمة، وتمرّ بالغياب الطويل للمؤسّسات الحكوميّة ولا تنتهي باتهام قسم من العراقيّين لميليشيات الحشد الشعبي بارتكاب جرائم حرب.

“مافيات”
الباحث في “مركز العراق لتعليم السلام”، ماثيو شفيتزر يرى أنّ الحكومة العراقية ما زالت غير متمتّعة باستراتيجيّة مناسبة لإعادة إعمار المناطق المحرّرة. شفيتزر وفي موقع “ذا غلوبال أوبسيرفاتوري” الأميركي كتب أيضاً عن تنامي ظاهرة الميليشيات المتنافسة في ما بينها. فقد تحوّلت هذه الأخيرة إلى ما يشبه “المافيات” على صعيد العمل والسيطرة على المدن الأمر الذي يعرقل عمليّة تعافي المجتمع بحسب رأيه. ويشير إلى أنّ هجمات داعش المعاكسة والفجائيّة لن تكون الخطر الوحيد على الأمن، بل يضاف إليها الجريمة المنظمة والفساد والتنافس غير الشرعي بين مختلف اللاعبين المحلّيّين. وحذّر من اتّجاه الميليشيات والعصابات الإجراميّة لملء الفراغ، كما حصل في البصرة التي تُرك فيها تسع وحدات من الشرطة وكتيبة عسكرية واحدة فقط، من أجل حماية 3 ملايين مواطن. هذا الواقع رفع عدد الجرائم إلى 300 جريمة خطيرة في الشهر الواحد.

عضلات الحكومة
تشابك معالم النفوذ بين السياسة والمَلْيَشة في العراق يعقّد الحلول البعيدة المدى. وربّما كانت قوننة ميليشيات الحشد الشعبي مظهراً واحداً من بين مظاهر متعدّدة لانهيار الدولة العراقيّة وسبباً لمزيد من الضعف البنيوي الذي سيعتريها في المستقبل القريب. فالصراع ليس واضح الحدود إلى الدرجة التي تسمح بتقسيم المشهد العراقي بين دور للحكومة وآخر للميليشيات. فالحشد بحسب مراقبين، بات في إحدى النواحي، امتداداً عضويّاً للحكومة. وهذا ما أكّده شفيتزر نفسه حين وصف هذه الميليشيات بال “عضلات للأحزاب السياسيّة والكتل البرلمانيّة”. إذاً تصبح إعادة الثقة بالمؤسسات الرسميّة لدى العراقيّين أكثر صعوبة انطلاقاً من هذا التوصيف.

“هل رسالتي واضحة؟”
إنّ التخوّف المشروع من اعتبار الميليشيات امتداداً للحكومة العراقيّة يوازيه، ولو بمقدار متفاوت، التخوّف من تحوّل الحكومة إلى امتداد للميليشيات. حاكم الزاملي مثلاً هو قيادي في ميليشيا جيش المهدي ونائب عراقي في الوقت نفسه. هادي العامري هو أمين عام منظّمة بدر ووزير سابق ونائب حاليّ. مثلان يضيئان على واقع التداخل بين المؤسسات الرسميّة والميليشيات مع ما ينتج عنه من تخلخل في مفهوم الدولة العراقيّة، نظريّاً وعمليّاً. منذ أكثر من سنتين، وقعت مجزرة طاولت نازحين من المقداديّة لجأوا إلى براونة في محافظة ديالى تمّ اتهام ميليشيات حشديّة بالتورّط فيها. حينها، كُلّف الزاملي بترؤّس لجنة التحقيق في الجريمة ممّا أثار استياء واسعاً لدى شريحة من العراقيّين. وكان العامري نفسه، بحسب منظّمة “هيومن رايتس ووتش” قد أطلق تهديدات إلى سكّان المقداديّة عن “يوم الحساب القادم” مضيفاً: “سنهاجم المنطقة حتى لا يبقى منها شيء. هل رسالتي واضحة؟”

هذه الأزمة لا تختصّ فقط بالتحريض والجرائم الطائفيّة، ولا بغياب الشفافية في التحقيقات وحسب، بل تصل أيضاً إلى تحوّل جزء من صلاحيّات السلطة القضائيّة إلى رجل دولة وميليشيا في آن. هذه الظاهرة تعني تأرجحاً لآليّة التحقيق بين ما هو رسميّ وما هو ميليشيوي، في ظلّ غياب مرجعيّة مؤسّساتيّة واضحة. ولذلك، يرى البعض أنّ الامتداد بين الشرعيّة واللاشرعيّة في العراق قد يكون مساراً ذا اتّجاهين، بمعنى أنّ السلطة نفسها يمكن أن تكون امتداداً للميليشيات وليس العكس فقط. وهذا، في أفضل الأحوال، قد يعيق أو يؤخّر قدرة الدولة العراقيّة أو ما يتبقّى منها على وضع خطّة سلام لمرحلة ما بعد هزيمة التنظيم. أمّا في أسوئها، فهو سيعني، بحسب ما كتبته سردادر عزيز في “معهد واشنطن” الوصول إلى “وصفة مناسبة لغياب الاستقرار على المدى الطويل”.