Beirut weather 11.41 ° C
تاريخ النشر August 27, 2017
A A A
الجيش قرع أجراس المعركة على آذان “فجر الحدود”
الكاتب: علي الحسيني - الأفكار

فاجأ الجيش اللبناني حلفاءه قبل خصومه، بالحرفية العالية والقوّة المنيعة التي تمكن من خلالهما حسم معركة (فجر الجرود) ضد تنظيم داعش الارهابي منذ الساعات الاولى للمعركة، حيث تمكن خلال الايام الثلاثة الاولى، من هزّ هيكلية هذا التنظيم بعد تدمير دفاعاته بشكل كامل مما اضطره للجوء إلى مربعه الاخير بعد تحرير ثلثي المساحة التي كان يحتلها لفترة زادت عن اربع سنوات.

الصلاة لا تجوز إلا هناك
كل الأبصار شاخصة صوبهم. هناك ركن من صلاة هذا العالم لا تُشبه لا في تراتيلها ولا في آذانها أي صلاة اخرى. هناك خلف تلك التلال المُشبعة بالدماء والمُمتلئة بالآلام والصعاب وقهر السنوات، كان الرجال على موعد مع الانتصارات ورفع الرايات قابلها الطرف الآخر بالهزائم والانكسارات. انه (فجر الجرود) المُمتد على مساحة 150 كلم مربعاً. أنه وعد مقطوع على هامات ما عرفت جباهها يوماً الانحناء، دكّت الحصون والقلاع والكهوف والانفاق ذات فجر تحوّل بفعل وهج القذائف ونيران الصواريخ وصرخات النصر، إلى يوم مُشمس يعد بأيام صافية آمنة تتعانق فيه الأرواح الخيّرة وتتلاقى على أرضه أصوات أجراس الكنائس وصلوات التكبير ونشيد كُلنا للوطن.
من قلب جرود رأس بعلبك والقاع وعرسال والفاكهة، ومن قلب دعوات كل ام وزوجة شهيد ومن دموع كل طفل فقد والداً أو شقيقاً، طلّت بشائر النصر حاملة على جناحيها ورود ملونة بطلاّت الصباح، مفروشة بالعزة والكرامة وممهورة بدماء أبت إلا أن تُكمل طريق الوعر لتروي صحراء يبست تربتها بعد أن دنسها الإرهاب الذي حوّل أشجارها إلى وقود وأحرق تربتها بالنار والبارود. هو النصر المُرتجى المُكلّل بدماء الشهداء وأنين جرحى يتمنون في كل لحظة، العودة إلى الميدان ليستشهدوا أو يُجرحوا مُجدداً وليسطروا مع رفاقهم، ملاحم بطولية سوف ترويها الأجيال القادمة ضمن مشهدية يقول مطلعها (رجال الكرامة في لبنان، صادقوا وصدقوا وعد الله بالميدان).

من هنا كانت البداية
“باسم لبنان والعسكريين المختطفين ودماء الشهداء الأبرار وباسم أبطال الجيش العظيم أطلق عملية فجر الجرود”. هي تغريدة أطلقها قائد الجيش العماد جوزف عون عبر موقع تويتر التابع لمديرية التوجية عند الخامسة من فجر السبت الماضي، إيذاناً ببدء عملية تحرير جرود رأس بعلبك والقاع. ومع إطلاق ساعة الصفر، راحت مدفعيات الجيش وراجماته توزّع قذائفها وصواريخها بالتساوي ومن دون أي تمييز، على نقاط ومراكز الإرهابيين المُتحصنين خلف التلال، محققة فيهم إصابات مباشرة أدت خلال الساعات الأولى، إلى ضعضعتهم وتفكيك تجمعاتهم، ما سهّل على الجيش التقدم نحو العديد من المواقع التي استعاد السيطرة عليها بعد تفكيك مئات الألغام والعبوات التي كان قد زرعها الإرهابيون بهدف إعاقة عملية التقدم.
انطلاق عملية التحرير، سبقتها عمليات مُركزة قام بها الجيش طوال الفترة الماضية لكن مع التكتم والحرص الشديد على عدم الافصاح عن توقيت المعركة. قيادة الجيش كانت على ثقة ودراية تامة، بأن الوضع لن يكون سهلاً، وأنه لن يكون هناك توقيت لإنهاء العملية العسكرية، وهذا ما يؤكده سير المعركة حتى الساعة، إذ إنه لا توقف على الإطلاق عن استهداف مواقع ونقاط عناصر داعش، إلا بعد استعادة آخر نقطة حدودية والقضاء على آخر إرهابي أو الاستسلام. واللافت في مسار الساعات الأولى للمعركة، كان في قدرة الجيش بالسيطرة على مجموعة تلال كاشفة، أبرزها المرتفع 1564 المُشرف على وادي رافق، وتلّة طلعة العدم، ليأتي هذا الإنجاز، بعد جهد حثيث قامت به وحدة الهندسة في الجيش من خلال تفكيكها الألغام والمفخخات من الطرق المؤدية إلى الموقعين.

المجوقل والتدخل الأول ودعوات الرئيس
تحت غطاء مدفعي كثيف ونيران المضادات الأرضية، بدأ فوجا المجوقل والتدخل الأول في الساعات الأولى، عمليات نوعية وفق خطة القضم البطيء، واجهوا خلالها هجوماً شرساً وعنيفاً نفذه الإرهابيون استخدموا خلاله القنص وقذائف «أر بي جي» ورمانات يدوية وذلك بعدما زرعوا المساحات كلها، ألغاماً مضادة للأفراد والدروع. لكن على الرغم من قساوة المعركة، تمكن الجيش من التقدم نحو معابر رئيسية حدودية ومناطق استراتيجية تسمح له بكشف مواقع داعش الذي قدرت مصادر عسكرية عدد عناصره، بأكثر من 700 عنصر. والأهم أن هذه العملية، منعت أي إمكانية للمسلحين، من التسلّل إلى الداخل اللبناني.
من أرض الجرود ومن ساحات المعركة، كانت تصل وعلى مدار الساعات الأولى إلى كل اللبنانيين بطولات ضباط وعناصر الجيش وهم يدكون حصون وقلاع الإرهابيين في أكثر من نقطة، وسط حالات انهيار وفرار لعناصر داعش. أما الدعم الأكبر لجهود الرجال الرجال في جرود رأس بعلبك والقاع، فقد برز من خلال زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الصباح الباكر، غرفة العمليات في قيادة الجيش، ليطلع بشكل مباشر من قائد الجيش على سير العمليات العسكرية وليتابع النقل المباشر لوقائع تحرك قوى الجيش في المنطقة واشتباكها مع المجموعات الإرهابية. واللافت كان اتصاله هاتفياً بقادة الوحدات المقاتلة وحثهم خلاله على متابعة انتصارهم وسحق العدو. وليُنهي الاتصال بجملة ناطرين الانتصار.
مجموعة صور ومشاهد كانت تبثها قيادة الجيش على مدار الساعة من وزارة الدفاع، حول سير المعركة. قلوب اللبنانيين كانت تخفق مع كل صرخة ضابط لحظة إعطاء الأوامر بفتح النار. أصوات الدبابات والمدرعات كانت تهدر في الجرود، فكان يُسمع هديرها المُصاحب لأصوات القذائف التي تُطلقها، وكأنها معزوفة تترك ارتياحاً في النفوس وانطباعاً بأن النصر آتٍ لا محالة. بدورها شاشات التلفزة المواكبة للعملية فمن خلال ما كانت تبثه من صور ومقاطع فيديو، تُظهر بسالة الجيش وأداء مُحترفاً لعناصره في معركة هي الأصعب والأقوى في تاريخ لبنان، انعكست فخراً في نفوس كل اللبنانيين في معركة أُفردت لها كل الأسلحة والدعمين العسكري والسياسي. هي معركة كان فيها العزم على تحقيق الانتصار ولا شيء غيره، ظاهر من القيادة حتى العناصر وهؤلاء كانوا يشقون ببنادقهم وسواعدهم، كل الطرق المُغلقة للوصول إلى الجبال والقمم، رافعين رايات النصر وعلم الألوان الثلاثة.

مديرية التوجيه.. نحن معكم
الأبرز في عملية (فجر الجرود)، أنه ما كان يغيب عن أعين اللبنانيين والإعلاميين وكل متتبعي سير المعركة، كانت تتكفل به مديرية التوجيه في الجيش. فخلال مؤتمر صحافي عقده العميد علي قانصو، كانت الشروح حول عملية (فجر الجرود) تصل بوضوح تام إلى الجميع من دون استثناء. بدأ قانصو المؤتمر بالقول: (كما تعرفون جميعاً، فقد أعلن قائد الجيش العماد جوزف عون على التويتر، باسم لبنان والعسكريين المختطفين ودماء الشهداء الأبرار وأبطال الجيش اللبناني العظيم عملية فجر الجرود). مضيفاً: (إن مهمة الجيش مهاجمة إرهابيي داعش في جرود رأس بعلبك والقاع، ليدمرهم واستعادة الأرض والانتشار حتى الحدود اللبنانية السورية). وفجراً تابع فخامة رئيس الجمهورية جزءاً من العمليات ووجه رسالة إلى قائد الجبهة والعسكريين الموجودين هناك، وتم عرض تسجيل لمتابعة الرئيس للعمليات والمكالمة الهاتفية التي أجراها مع قائد العمليات على الأرض.
وشرح قانصو كيفية تقسيم داعش لمناطق سيطرته إلى ولايات تشبه المحافظات المعتمدة في بلدانهم الأم. بالإضافة إلى الطريقة التي تخضع فيها العناصر الإرهابية المنتشرة في جرود رأس بعلبك والقاع إلى ولاية الشام – قاطع القلمون الغربي وكيفية تمركزها:
شمالاً: جرود رأس بعلبك وجرد القاع.
غرباً: جرد رأس بعلبك وجزء من جرد عرسال.
جنوباً: على امتداد التلال المشرفة على وادي الشحوط.
شرقاً: منطقة قارة والجراجير والبريج في الأراضي السورية.
أما في ما يتعلق بتشكيل الوحدات الإرهابية وأسلحتها، فقد عرض قانصو صوراً تدل على أنها مجموعات من المشاة معززة بآليات ودراجات نارية تمتلك أسلحة ثقيلة ومتوسطة وخفيفة، مدافع هاون، صواريخ موجهة، أسلحة مضادة للدروع، أسلحة مضادة للطائرات، قناصات ومناظير ليلية وطائرات من دون طيار.

بين نقاط قوة داعش وضعفه
من المعروف أن تنظيم داعش أسّس لنفسه عقيدة خاصة في القتال منذ ظهوره على الساحة السورية والعراقية، وقد تنوعت هذه العقيدة بين عمليات انتحارية واحترافية في القنص بالاضافة الى السرية التامة في عمله بحيث ان كل مجموعة أو فصيل منه، ينتمون الى قيادة منفصلة عن الاخرى، لكنهم يتلقون الأوامر من القائد الاعلى أمير التنظيم ابو بكر البغدادي الموجود في محافظة الرقة.
في لبنان وعلى مساحة الجرود التي يُسيطرون عليها، يُقدر عديد حجم الوحدات الإرهابية بحوالى 600 إرهابي وفق التقديرات الاستعلامية، وهي تتوزع على ثلاث مجموعات: فصيل بكر شمالاً (جرد القاع)، فصيل علي في الوسط (جرد رأس بعلبك) وفصيل أسامة في الجنوب (على امتداد التلال المُشرفة على وادي الشحوط). وعرض خريطتين لتمركز الإرهابيين تُظهر توزيعهم كفصائل. نقاط الضعف: عدم توفر تغطية جوية وعدم توفر دبابات. أما نقاط القوة: مهاجمة قوى الجيش بواسطة الدراجات المفخخة والانتحاريين والانغماسيين بتقنية عالية في التفخيخات والنسفيات، خبرة التخفي والانتقال بسرعة من جبهة الى أخرى باستعمال الدراجات النارية، خبرة عالية في عمليات القنص، حيث أن طبيعة الأرض تساعدهم في ذلك. كما أن مراكزهم هي قريبة جداً من بعضها فيستطيعون دعم ومساندة بعضهم البعض.
وبحسب مصادر عسكرية، فإن الانشطار الذي حصل بين هؤلاء العناصر، جاء على خلفيّة تحقيق الجيش خرقاً كبيراً في عمق منطقة عمل (فصيل أسامة) والذي تمثل بسيطرته على مُرتفعَين أساسيّين هُمَا ضهور الخنزير ومرتفع خزعل. إضافة إلى سيطرته على تلة خلف وتلة 1476 وتلة 1564 وتلة سهلات الشميس والمخيرمة وطلعة مبيض وخربة الشميس وداوود، جبل المخيرمة ومحور تلة الحمرا والسيطرة بالنار على مراح درب العرب.

من الجيش نبدأ واليه نعود
هي ملاحم بطولية يُسطرها الجيش في معركة (فجر الجرود). إنتصارات لا لبس فيها ولا شكوك تدور حولها. جنود مشوا في فجرهم الأول إلى جرود ظلّت لسنوات تحت رحمة الإرهاب ليقطفوا مواسم النصر ويُهدونه إلى كل لبنان، وها هم أقرب اليه من أي وقت مضى بعدما استرجعوا الجزء الاكبر من المساحات التي كانت محتلة. وفي السياق تخضع معركة (فجر الجرود) لعمليات متعددة منها، عسكري وسياسي وحسابي وإعلامي. في الميزان العسكري، فقد أظهر الجيش قوّة غير مسبوقة لجهة تعاطيه مع الواقع الميداني وسرعة الأداء في تنفيذ المهمات وإنجاز كل عملية بحسب الخطط الموضوعة، وهو أمر أدى في أكثر من موقع، إلى تهاوي عناصر داعش وفرار بعضهم باتجاه الثلث المُتبقّي من نسبة سيطرة التنظيم الاجمالية. أما في الشق السياسي، يُمكن القول إن ما تم تحقيقه في أرض الميدان، كان معطوفاً على دعم سياسي مطلق وحكمة غير مسبوقة لجهة تعاطي الحكومة مع المعركة حتّى قبل بدايتها، وأخذها على عاتقها رغم كل ما يُمكن أن يفرز عنها.
أما في الشق الحسابي، فيمكن الركون إلى جملة معطيات ميدانية، خلصت اليها ًالمعركة. أولاً بعد سنوات من الدعايات المتكررة والسيناريوات المحبوكة لجهة تعاظم قوّة عناصر تنظيم داعش في الجرود اللبنانية ووصفهم بالأشداء وبأنه من الصعب هزيمتهم، وتصويرهم على أنهم يمتلكون قوة عسكرية مدعومة بأعتى الأسلحة، قام الجيش بكسر هذا الإطار وتحطيم هذه الصورة بعد ان تمكن من إظهار هؤلاء العناصر على حقيقتهم وقتل منهم أربعين عنصراً تقريباً وجرح العشرات. ولعل الأبرز في عملية الجيش، تمثّل بالحد من الخسائر البشرية على الرغم من أن الشهداء الاربعة الذين سقطوا مع الجرحى العشرة، يُمثلون من خلال المعنويات التي خاضوا فيها هذه الحرب وإيمانهم بالقضية التي يحملونها، ضمير هذا الوطن وعزته وقوة ومنعة جيشه.

أما في الحساب الإعلامي، يُمكن الجزم ان قيادة الجيش أظهرت حرفية عالية المستوى في طريقة تعاطيها مع وقائع المعركة بعد أن نقلت إلى وسائل الإعلام صورة واضحة لا غبار لجرود الحرب فيها ولا نقاش او تساؤلات حول دقّتها. والاهم ان قيادة الجيش نجحت في اظهار مدى مواكبتها لأهميّة المسألة الاعلاميّة عبر اعتماد سياسة جديدة اعطت ثمارها باكراً، فحصرت من جهة المعلومات الاعلاميّة بها، وابقت الجميع على بيّنة مما يحصل في الجرود، ومن هذه الأخبار استمدت كل وسائل الاعلام المحلية والخارجية، معلوماتها وبنسبة صفر في المئة في ما يتعلّق بالخسائر البشرية في صفوف الاعلاميين. ولكل هذه الاسباب وغيرها، يُمكن القول إن الجيش كسب المعركة قبل أن تبدأ فعلياً، ويمكن الحديث عن انتصار معنوي وشعبي ووطني وإعلامي له قبل انتهاء عملياته.
في طبيعة أجواء المعركة، تبدو الجبهة هادئة نوعاً ما مقارنة مع اليومين الأولين للمعركة، لكن تستمر مدفعيات الجيش وطائراته في استهداف مواقع داعش. وعلى المقلب الآخر، يواصل الجيش تنظيف أماكن سيطرته من المتفجرات والعبوات التي زرعها الارهابيون قبل فرارهم، بالإضافة إلى تثبيت مواقعه التي سيطر عليها خلال اليومين الماضيين. مصادر عسكرية أكدت لـ«الافكار> أن الجيش يُعد للمرحلة الأخيرة من المعركة التي تقتضي تحرير الجزء المتبقي، وما يحكى عن انتهائها هو في غير محله طالما ان هناك أرضاً لبنانية مُحتلة. وتكشف المصادر أن عملية القضاء على ما تبقّى من وجود لداعش، تُعتبر المرحلة الأصعب والأبرز خصوصاً لجهة الحشد في صفوف التنظيم، ومن المتوقع أن تشهد معركة حماوة خصوصاً أن الجيش حسم أمره لاسترجاع كل شبر من أرض لبنان، ومن دون توقيت زمني محدد>.