Beirut weather 26.41 ° C
تاريخ النشر October 24, 2019
A A A
الثورة ضدّ الفساد… الأضرار الماليّة والإقتصاديّة ترتفع والحكومة لن تستقيل
الكاتب: بروفسور جاسم عجاقة - الديار

الهوّة بين السلطة السياسية والشعب كبيرة! هذا هو الاستنتاج الأول الذي يظهر من سبعة أيام عمّتها التظاهرات في كل المناطق. وتخلّل هذه الفترة توقف شبه كامل للنشاط الإقتصادي حيث أن الإحتجاجات أدّت إلى قطع الطرقات كما ووقف مُعظم النشاط التجاري والصناعي والخدماتي. هذا التوقفّ يعني أن هناك ما يُقارب المليار دولار أميركي خسائر على الإقتصاد اللبناني بالإضافة إلى خسائر مالية على صعيد خزينة الدوّلة. وقد أصبح من شبه الأكيد أن الحكومة الحالية لن تستقيل نظرًا إلى رفض ثلاث مكوّنات أساسية فيها هذه الفكرة.
على الصعيد المالي تراجعت سندات الخزينة اللبنانية بالدولار الأميركي (LB Bonds 5Y) من 71.375 نقطة إلى 64.572 نقطة نهار البارحة عصرًا. الجدير ذكره أن سعر هذه السندات كان يُقارب الـ 85 نقطة عند وقوع حادثة قبرشمون التي تُعتبر نقطة إنطلاق التراجع في سعر هذه السندات.
عمليًا، أصبح من شبه الأكيد بعد كل هذه الأحداث أنه لن يكون بمقدور الحكومة اللبنانية الإلتزام بنسبة العجز التي أقرّتها في موازنة 2019 والبالغة 7.59% من الناتج المحلّي الإجمالي. مما يعني أن توقّعات صندوق النقد الدوّلي ووكالات التصنيف الإئتماني أصبحت الأكثر إحتمالا (9% إلى 10% أي ما يوازي 4.9 إلى 5.5 مليار دولار أميركي).
إضافة إلى ذلك، بعض الإجراءات المنصوص عليها في موازنة العام 2019، لن يكون من السهل تطبيقها نظرًا إلى الأوضاع السائدة منذ إقرار هذه الموازنة. وهذا يعني بمعنى أخر أن توقّعات العجز قد تكون أعلى مما توقّعته المؤسسات الدوّلية وقد يصل إلى أكثر من 6 مليار دولار أميركي في نهاية العام 2019!
الثوّرة هي ثوّرة ضدّ الفساد، وهذا الأمر يُمكن ملاحظته من خلال هتافات وتصريحات المحتجّين على شاشات التلفزة والتي طالبت كلّها بإستعادة الأموال المنهوبة. هذه الأموّال التي قدّرتها وزارة الخزانة الأميركية بـ 800 مليار دولار أميركي كما ذكرت صحيفة الـ «واشنطن بوست» الأميركية نفّذها 90% من الذين حكموا لبنان بحسب صحيفة الـ«وول ستريت جورنال».
وفي تقدير حسابي لهذا الرقم، بلغ الناتج المحلّي الإجمالي المُحقّق منذ العام 1992 وحتى اليوم 801 مليار دولار أميركي. أضف إلى هذا الرقم الإقتصاد غير الرسمي والمُقدّر بنسبة 38% من الاجمالي الإقتصادي أي ما يوازي 305 مليار دولار أميركي. أيضًا يتوجّب زيادة قيمة الدين العام البالغة 86 مليار دولار أميركي مما يؤدّي إلى 1192 مليار دولار أميركي! هذا الرقم الهائل هو حجم المداخيل التي حصّلها لبنان منذ العام 1992 وبالتالي كان يتوجّب أن ينعكس هذا الرقم على الإقتصاد، المالية العامّة والمُجتمع، إلا أن الحقيقة تُظهر تردّي الوضع الإقتصادي والمالي والإجتماعي إلى مستويات لا تواكب مستوى المداخيل المُحقّقة مما يعني أن الفساد موجود فعلاً! وكان البطريرك الراعي، وفي خلال الإجتماع الإستثنائي لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، قال إن «السلطة أمعنت في الانحراف والفساد حتى إنتفض الشعب».
وقد يكون الرقم الذي قدّرته وزارة الخزينة الأميركية عن الفساد في لبنان (800 مليار دولار أميركي) ذا مصداقية، إلا أنه يبقى من الصعب جدًا معرفة الرقم الحقيقي من دون الإطلاع على حركة تنقّل رؤوس الأموال منذ العام 1992 وحتى يومنا هذا. الجدير ذكره أن حجم الموازنات العامّة منذ العام 1992 وحتى يومنا هذا مُقدّر بـ 300 مليار دولار أميركي!
على كل الأحوال، يبقى الدين العام اللبناني البالغ 86 مليار دولار أميركي هو نطقة إنطلاق بالحدّ الأدّنى لحجم هذه الأموال التي إستحصل عليها أصحاب النفوذ من المال العام عن غير وجه حقّ.
على صعيد أخر، نشرت وكالة بلومبرغ تقريرًا سألت فيه العديد من المستثمرين والخبراء عمّا إذا كانوا يعتقدون أن ورقة الحريري الإقتصادية التي أقرّها مجلس الوزراء في أخر جلسة له الإثنين الماضي ستسمح بتجنيب لبنان التخلّف عن سداد ديونه؟
وكانت الأجوبة سلبية من ناحية أنه يُمكن تلخيصها بأن هذه الإجراءات ما هي إلا «إرجاء ليوم الحساب»!
ومن بين الأجوبة التي تمّ نشرها أن لبنان يتجّه إلى إعادة هيكلة ديونه حيث أن تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج سيستمر إلى حدّ جفاف السيولة لدى المصارف اللبنانية، وهذا الأمر سيدّفعها إلى بيع محافظها من سندات الخزينة اللبنانية بالدولار الأميركي مما سيؤدّي إلى خفض إضافي في سندات الخزينة! أيضًا قال أحد الخبراء أن المسألة مسألة وقت قبل نفاد السيولة وبالتالي سيكون هناك إلزاميًا إعادة هيكلة للديون السيادية نظرًا إلى أنّه من الصعب مُعالجة عجز في الحساب الجاري بنسبة 20% (من الناتج المحلّي الإجمالي) وفي الوقت نفسه إدارة الدين العام مع تراجع نمو الودائع في المصارف!
خبير أخر قال لبلومبرغ أن هذه الخطّة هي إشارة إيجابية للأسواق المالية ولكنها تؤكّد فقط أنه «سيتم الحفاظ على مصالحهم» (بالإشارة إلى السياسيين). من هذا المُنطلق رأى هذا الخبير أنه في النهاية هناك إلزامية لإعادة هيكلة الديون السيادية في فترة زمانية لا تتجاوز الأربع سنوات إضافية.
يجدر الذكر أن ورقة الرئيس الحريري تعتمد بشكل أساسي على مساهمة المصارف التجارية ومصرف لبنان. وكانت المصارف قد صرّحت أنها مُستعدّة لدعم الحكومة شرط أن يكون هناك جدّية في الإصلاحات الواردة في الورقة، لكن القرار الرسمي سيصد بعد إنتهاء إجتماعات الجمّعية التي بدأت منذ إعلان الحريري عن خطّته.
على هذا الصعيد، إنتقدت وكالة التصنيف الإئتماني موديز «إجبار المصارف على قبول سعر فائدة منخفض على ديونها» وقالت أن الثقة في قدرة الحكومة على سدّ ديونها تتراجع. وأضافت أن الضرائب على القطاع المصرفي ستكون سلبية على المصارف كما أن الضغط على ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي سيزيد!
الإفلاس في لغة الأسواق يتضمّن ثلاث حالات:
أولا- الدوّلة لا تمتلك المال لسدّ إستحقاقاتها
ثانيًا- الدوّلة تمتلك المال ولا تدفع إستحقاقاتها
ثالثًا- إعادة هيكلة الديون.
المُعطيات تُشير إلى أن لبنان لا يوجد في أي حالة من هذه الحالات، وبالتالي لا يُمكن إعتبار لبنان مُفلسًا بلغة الأسواق المالية. لكن الحقيقة المُرّة أن الوضع المالي يتوجّه نحو الإفلاس في ظل إزدياد إعتماد الدوّلة على المصارف في التمويل وتراجع النشاط الإقتصادي. من هذا المُنطلق أي إصلاح لا يتضمّن خفض الإنفاق العام، لجم الإستيراد وزيادة الناتج المحلّي الإجمالي، يعني أننا ذاهبون إلى إعادة هيكلة للديون.
إعادة هيكلة الديون هي آلية خلقتها الأسواق المالية لتفادي الإفلاس الناتج عن عدم القدّرة على دفع الإستحقاقات (النقطة الأولى). وتنصّ الآلية على تخفيض الفائدة على الديون من خلال إقتراض جديد أو من خلال تعديل الإستحقاق وقد يتضمّن أيضًا قبول المُقرضين بالتخلّي عن قسم من الديون. لكن المرور بهذه الآلية يعني شبه حرمان للدوّلة من القدرة على الإستدانة في الأسواق.
إعادة هيكلة الديون السيادية تفرض طلب مساعدة صندوق النقد الدولي الذي يشترط لإقراض الدوّلة عددًا من الشروط العامّة وهي: رفع الضرائب، إلغاء الدعم عن السلع والخدمات الإجتماعية وخصخصة القطاع العام. هذه الشروط عادة ما تؤدّي إلى تراجع كبير في الوضع الإجتماعي وبالتالي يؤدّي في كل الحالات إلى إحتجاجات شعبية شبيهة بما نعيشه اليوم.
يبقى القول أن الأرقام تُشير إلى أننا ما زال لبنان بعيد عن الإفلاس (أقلّه لبضع سنوات) إلا إذا تمّ تنفيذ إصلاحات فعلية تطال خفض الإنفاق العام، لجم الإستيراد وزيادة الناتج المحلّي الإجمالي.