Beirut weather 21.41 ° C
تاريخ النشر August 27, 2016
A A A
التمييز ضد المسلمين الفرنسيين يخدم الجماعات المتطرفة
الكاتب: عامر راشد - سبوتنيك

التشدد في فهم وتفسير العلمانية تطبيقاتها يحمل في طياته محذور تقييد الحريات العامة الأساسية، والتمييز ضد فئات من المجتمع، وزرع بذور مشاعر العداء والكراهية وتأجيجها بين أبنائه. أثارت قضية حظر “البوركيني” جدلاً واسعاً في فرنسا والعالم، وربما سيستمر الجدل فترة طويلة قادمة، رغم إلغاء أعلى سلطة قضائية في فرنسا، مجلس الدولة الفرنسي، حكماً كانت قد أصدرته محكمة إدارية فرنسية محلية فرنسية بالمصادقة على قرار بلدية مدينة فرنسية، في منطقة “الكوت دازور”، وحذت حذوها 30 بلدية أخرى في فرنسا، بحجة أن ارتداء “البوركيني” على الشواطئ الفرنسية يخالف “التقاليد ومبادئ العلمانية”.

وكما هو معروف “البوركيني” لباس بحر يغطي كامل الجسد ترتديه النساء المسلمات في فرنسا وفي العديد من الدول الأوروبية. الجدل ترافق مع انقسامات رسمية وحزبية فرنسية حادة، وحملات إعلامية مكثفة، أعطت أبعاداً أكبر بكثير من قضية “البوركيني” بحد ذاتها، وصفتها رئيسة بلدية باريس، آن هيدالغو، بـ”الهستيريا السياسية والإعلامية”، فتصريحات المؤيدين والمدافعين عن قرار الحظر جدفت بعيداً في خلع إسقاطات سياسية على الجدل الدائر.

رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، أيد قرار الحظر، معتبراً أن “البوركيني ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع مبني على استعباد المرأة”، وأضاف أنه يؤيد قرارات رؤساء البلديات “إذا كانت مدفوعة برغبة في تشجيع العيش المشترك الذي لا مكان فيه لدوافع سياسية خفية”، وأثنى على تلك القرارات بزعم أنها تأتي في سياق البحث عن حلول “لتجنب اضطرابات في النظام العام”. بدوره اتخذ الرئيس فرانسوا هولاند موقفاً أقرب لتأييد لقرار الحظر بدعوته إلى ما أسماه “عدم الخضوع للاستفزاز، أو التمييز، دون الحكم على الأسس التي اعتمدت لحظر البوركيني”. كيف يمكن للباس “البوركيني” أن يهدد العيش المشترك وأن يخفي وراءه دوافع سياسية وأن يعكر صفو الأمن العام؟ وما هي الأسس التي اعتمدت لحظر ارتدائه على الشواطئ الفرنسية؟ من اتخذوا القرار، ومن أيدوه ودافعوا عنه، تهربوا من الإجابة على هذين السؤالين، هذا بافتراض أنهم يمتلكون حقاً إجابة يمكن أن يواجهوا بها المعارضين للقرار، لكنهم لعبوا على وتر وجود حاضنة شعبوية كبيرة لمثل هكذا قرار في فرنسا، الأمر الذي اعتبرته وزيرة التربية الفرنسية، نجاة فالو بلقاسم، “انحرافات سياسية”.

فرنسا تقِّدم نفسها بأنها مهد العلمانية في العالم، إلا أن الكثير من التطبيقات التي تعتمدها السلطة التنفيذية الفرنسية تتنافى مع مبادئ العلمانية، التي لا يجوز أن تؤدي القوانين المستمدة منها إلى التمييز ضد أشخاص، والاعتداء على الحريات العامة الأساسية، ومن أبسطها عدم الإملاء على الناس الملابس التي يرتدونها، وهو ما خالفته الحكومة الفرنسية بفجاجة، وهذا ليس اتهاماً غير مسند، بل يتطابق مع ما أكد عليه مجلس الدولة في فرنسا بتعليقه لقرار حظر “البوركيني”، وما أكدت عليه أيضاً الانتقادات الواسعة للقرار، فالمتحدث الرسمي باسم الأمين للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، قال في تعليق له على صورة تظهر عناصر شرطة فرنسيين يجبرون امرأة مسلمة على خلع لباس “البوركيني” على شاطئ جنوب فرنسا: “إن الصور المتداولة لإجبار الشرطة الفرنسية سيدة على خلع البوركيني تدل على عدم احترام كرامة المرأة، وتتنافى مع حقوق الإنسان”.

إن حرية المعتقد والمساواة في الحقوق من أهم مبادئ العلمانية، والسلطة العامة يجب أن تكفل هذا المبدأ وأن تكون محايدة في تطبيقه، والابتعاد عن أي سياسات يشتم منها تمييزاً يتنافى مع المساواة واحترام الحقوق الشخصية التي يكفلها الدستور, والإخلال بهذا المبدأ يشوّه مفهوم العلمانية ويقود إلى تطبيقات تصطف فيها السلطة التنفيذية إلى جانب فئة معينة على حساب فئة أخرى. ويصب التشدد والتطرف في فهم وتفسير العلمانية، مثلما تجلى في قرار حظر “البوركيني”، في اتجاهين متعاكسين ظاهرياً، لكنهما يلتقيان في أهدافهما بالنتيجة، الاتجاه الأول تغذية اليمين المتطرف وتيار “الإسلاموفوبيا” في فرنسا وأوروبا، والاتجاه الثاني إعطاء ذرائع للجماعات الإرهابية المتطرفة التي تدعي انتمائها للإسلام ودفاعها عن المسلمين.

ومع التقدير لقرار مجلس الدولة في فرنسا، ثمة حاجة ماسة لمراجعة سياسية من قبل النخب السياسية والحزبية الفرنسية، نحو ميثاق شرف للالتزام بمبادئ العلمانية التي تحترم حرية المعتقد وتدعو إلى المساواة، والابتعاد عن السياسات الشعبوبة التي تشكّل اعتداءاً على الحريات العامة الأساسية، وتقوم على تمييز صارخ ضد فئات من المجتمع، وزرع بذور مشاعر العداء والكراهية وتأجيجها بين أبنائه، وهذا الذي يهدد فعلاً العيش المشترك، ويهدد بتعكير صفو الأمن العام، وليس ارتداء “البوركيني”.