Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر December 10, 2024
A A A
التصنيف الائتماني للبنان: تدنٍ حاد وإصلاحات مفقودة
الكاتب: سوليكا علاء الدين - لبنان الكبير

يعيش لبنان أزمة خانقة ومُعقدة الأبعاد أدّت إلى انهيار شامل في جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد ساهمت حرب أيلول الأخيرة في تعميق هذا الإنهيار الممتد منذ أكثر من خمس سنوات، بحيث لا يزال الفراغ الرئاسي يتربّع على عرش الجمهورية وسط شلل سياسي ومؤسساتي تام، وفشل في تحقيق التوازن المالي والنقدي، ما شكّل عائقاً كبيراً أمام تنفيذ الاصلاحات الجوهرية اللازمة لإنقاذ لبنان. وفي ظل هذا التدهور المتسارع، أطلق العديد من المؤسسات الدولية ووكالات التصنيف الائتماني العالمية تحذيرات متكررة، منبّهاً على العواقب الوخيمة التي قد تنجم عن استمرار تردي الأوضاع، وهو ما يهدد الاستقرار الاقتصادي والمالي للبنان ويزيد من مخاطر عزله على الساحة الدولية.

تحديات وتصنيف محدود
في أحدث المستجدات، أفادت وكالة “موديز للتصنيف الائتماني” في تقريرها الدوري حول الملف الائتماني للبنان بأن النظرة المستقبلية المستقرة تشير إلى عدم ترقب أي تحسن في تصنيف لبنان على المدى القريب. وأوضحت الوكالة أن التصنيف السيادي للبنان، الذي يبلغ “C” ويبتعد 11 درجة عن التصنيف الاستثماري، يعكس تقديراتها بأن حملة السندات قد يتكبدون خسائر تتجاوز الـ 65 في المئة نتيجة لقرار الحكومة السابقة بالتعثر في سداد سندات اليوروبوند في آذار 2020. كما أشارت إلى أن الدعم الخارجي لا يزال مرهوناً بحل الجمود السياسي، وإعادة هيكلة الدين العام، وتنفيذ الاصلاحات، مشددة على أربعة تحديات هيكلية رئيسية تؤثر بصورة كبيرة على تصنيف لبنان الائتماني، وهي:

قوة المؤسسات والحوكمة: “ca” تعكس هذه الدرجة الجودة الضعيفة جداً للمؤسسات وفاعلية السياسات في مختلف المجالات، بما في ذلك القيود المفروضة على السياسات المالية والنقدية، والعجز المستمر للحكومة في الوفاء بالتزاماتها تجاه سندات اليوروبوند منذ آذار 2020.
القوة المالية: “ca” تشير هذه الدرجة إلى الميزانية العمومية المثقلة بالديون، وضعف قدرة البلاد على تحمل الديون، مع توقعات بخسائر كبيرة للدائنين بعد إعادة هيكلة الدين العام.
القوة الاقتصادية : “ca” على الرغم من دور التحويلات المالية من الخارج في دعم مستويات الدخل واستهلاك الأسر، إلا أن هذه الدرجة تُظهر الانكماش الاقتصادي الحاد الذي مرّ به لبنان في السنوات الأخيرة، بالاضافة إلى التدهور الكبير في القوة الشرائية للأسر نتيجة التضخم المرتفع، وانخفاض مستويات الدخل. وتوقعت الوكالة انكماش الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 10 في المئة في 2024 و8 في المئة في 2025، مشيرةً إلى أن تصعيد النزاع العسكري بين إسرائيل و”حزب الله” قد فاقم الوضع الائتماني وعرقل جهود الحكومة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
التعرض لمخاطر الأحداث: “ca” تشير هذه الدرجة إلى التقييمات الضعيفة للمخاطر السياسية والسيولة الحكومية والضعف الخارجي، فضلاً عن المخاطر المتعلقة بالقطاع المصرفي. يعكس التقييم السياسي”ca” التوترات الجيوسياسية المستمرة بين إسرائيل و”حزب الله”، إلى جانب التوازن الطائفي الهش في البلاد. كما أن درجة “مخاطر السيولة الحكومية” تدل على نقص التمويل التقليدي، في ظل استنزاف الاحتياطيات من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، بينما تعكس درجة “مخاطر الضعف الخارجي” انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية في السوق الموازية واعتماد لبنان الكبير على الواردات، ما يحافظ على عجز الحساب الجاري المرتفع على الرغم من تدفقات التحويلات وعائدات السياحة. وفي هذا السياق، توقعت الوكالة أن يبلغ عجز الحساب الجاري 24.5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في 2024 و20.3 في المئة في 2025.
وعليه، أكدت “موديز” أن قوة التصنيف السيادي للبنان تعتمد بصورة أساسية على ارتباط الدعم المالي الكبير من المانحين الدوليين بتنفيذ برنامج إصلاح شامل بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. كما أوضحت أن النظرة “المستقرة” للتصنيف تعكس عدم توقعها لترقية التصنيف قبل إعادة هيكلة الدين العام، في ظل التحديات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تواجهها البلاد. وأضافت الوكالة أن أي تحسن في التصنيف سيكون مشروطاً بتحقيق تقدم ملموس في مجالات رئيسية، مثل نمو اقتصادي مستدام، واستقرار أسعار الفائدة، وزيادة إيرادات الخصخصة، بالاضافة إلى قدرة لبنان على تحقيق فوائض أولية كبيرة تضمن استدامة الدين. كما أفادت بأن الترقية تتطلب تسريع وتيرة الاصلاحات الهيكلية والتوحيد المالي بما يفوق التوقعات الحالية.

لبنان وخطر التصنيف
وفي آب الماضي، أعلنت وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيفات الائتمانية عن تثبيت التصنيف الائتماني للبنان بالعملة الأجنبية عند مستوى “SD/SD”، وهو ما يُشير إلى “تخلف انتقائي” عن سداد الديون بالعملة الأجنبية الطويلة والقصيرة الأجل. كما تم تثبيت التصنيف الائتماني للبنان بالعملة المحلية عند “CC/C”مع إبقاء النظرة المستقبلية سلبية على المدى الطويل.

وذكرت الوكالة أن الدين الخارجي أصبح يشكل 90 في المئة من إجمالي الدين، في حين من المتوقع أن يشهد الناتج المحلي الاجمالي ارتفاعاً طفيفاً في العام 2026 ليصل إلى 19.4 مليار دولار، قبل أن يعاود الانخفاض إلى 18.7 مليار دولار في العام التالي، وهو مستوى قريب مما هو عليه حالياً. كما أشارت “ستاندرد آند بورز” إلى أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي لن يتجاوز 3200 دولار في العام 2027، ما يمثل 35 في المئة فقط من مستواه في العام 2018. ومن المتوقع أن يستمر تآكل الادخار العام، محققاً عجزاً يقدر بنحو 3.7 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. كما تُشير التقديرات إلى ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الاجمالي لتصل إلى 236.8 في المئة في العام 2027، مقارنة بـ 143 في المئة في العام 2018. وفقاً للوكالة، إذا استمر الوضع الراهن كما هو، فإن سعر صرف الليرة قد يصل إلى مستوى قياسي جديد، ليبلغ 151 ألف ليرة للدولار في العام 2027.

رمادية ولا تصنيف
وأكدت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني استمرار أزمة لبنان المالية، بحيث أبقت تصنيف الدولة على المدى الطويل عند “تعثر مقيد” (RD) ، ما يعني عجزها المتواصل عن سداد ديونها بالعملتين الأجنبية والمحلية. وكانت الوكالة قررت في تموز الماضي التوقف عن تحديث التصنيفات الائتمانية للبنان، مُوضحةً أن نقص البيانات الأساسية المتعلقة بالأوضاع المالية والاقتصادية في البلاد حال دون تمكنها من تحديث تصنيفها.

الوكالة أفادت بأن استمرار التخلف عن سداد سندات اليورو يعكس تثبيت معدل التخلف عن السداد بالعملة الأجنبية على المدى الطويل عند مستوى “RD”، مؤكدة أن لبنان لا يزال متخلفاً عن السداد وذلك بعد فشل الدولة في دفع أصل سندات اليورو التي استحقت في 9 آذار 2020، وتوقف الحكومة عن خدمة مخزونها المستحق من سندات اليورو في انتظار إعادة هيكلة الديون. وفي ما يتعلق بالليرة اللبنانية، أشارت “فيتش” إلى أن تأكيد تصنيف الودائع بالعملة المحلية عند “RD” يعكس أيضاً فشل الحكومة في سداد مدفوعات الفوائد على حيازات مصرف لبنان من الأوراق المالية بالعملة المحلية الصادرة عنها. وأضافت أن خدمة الديون بالليرة المستحقة للدائنين من القطاع الخاص لا تزال معطلة، بحيث لم تطلب السلطات إعادة هيكلة هذه الديون.

ومؤخراً، تم إدراج لبنان رسمياً على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، في ضربة قاسية لسمعته الائتمانية أمام المؤسسات المالية العالمية. يُعزز هذا التصنيف من تكاليف الاقتراض ويحدّ من قدرة لبنان على جذب تمويلات خارجية، بحيث يزيد من تدهور الثقة في الاقتصاد اللبناني ويُعقّد جهود التعافي على المدى الطويل. وعلى الرغم من أن الآثار المباشرة لتداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية قد تبدو محدودة على المدى القصير، إلا أنها قد تشكل تهديداً مستقبلياً خطيراً على بنية الاقتصاد، خصوصاً إذا استمر تجاهل الاصلاحات والتشريعات المالية الحاسمة، ما يعني فقدان فرصة الخروج من اللائحة الرمادية وربما الانزلاق نحو إدراجه في القائمة السوداء.

بين الأزمة والإنقاذ
تمثل التصنيفات الائتمانية المتدنية نتيجة حتمية لعدم وفاء لبنان بالتزاماته المالية تجاه الدائنين، وعجزه المستمر عن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي والتفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة الدين العام، وبالتالي حرمانه من الحصول على المساعدات المالية الدولية الملحة. ولا شك في أن إهمال تنفيذ الاصلاحات الهيكلية اللازمة قد ألحق ضرراً بالغاً بتصنيف لبنان الائتماني، الذي بات يتطلّب اتخاذ إجراءات عاجلة وجذرية لإنقاذه وإعادته إلى مساره الطبيعي. في مقدمة هذه الاجراءات يأتي تعزيز الاستقرار السياسي والأمني، الذي يعد المدخل الرئيسي لاستعادة الاستقرار الاقتصادي والمالي والنقدي وفتح آفاق جديدة للنمو.

في 9 كانون الثاني 2025، تم تحديد موعد جلسة نيابية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد شغور رئاسي دام عامين كاملين. فهل سيتمكّن لبنان من تجاوز هذا الامتحان المصيري، وإعادة بناء أسس قوية لاستعادة الثقة على الصعيدين الداخلي والخارجي؟ وهل سينجح في جذب الاستثمارات والتمويلات والمنح، ما يُساهم في تحسين تصنيفه الائتماني ويُعيد له مكانته الاقتصادية ودوره الفاعل في الأسواق المالية المحلية والدولية؟