Beirut weather 23.41 ° C
تاريخ النشر August 2, 2024
A A A
البطريرك العلّامة إسطفان الدويهي الإهدني طوباوياً جديداً على مذابح الكنيسة الجامعة
الكاتب: بقلم لينا غانم

هي سطورٌ قليلة لن تختصر حتماً تاريخ بطريركٍ عظيم كان الراعي المثال لرعيته والمدافع الأقوى عن حقوق أمّته وعن الأقليات لا سيما المسيحية منها والإسلامية المضطهَدة كالدروز والشيعة، إنه باختصار المؤلف الماروني الخالد.

على أرض الصرح البطريركي، وبين حنايا ذراعي مريم العذراء اللتين تظلّلان أرض بكركي من عليائها في حريصا، تنطلقُ عند الساعة الثامنة والنصف من مساء اليوم الجمعة مسيرةُ إعلان طوباوية “أب التاريخ الكهنوتي اللبناني” الذي كرّس حياته للدفاع عن الكنيسة المارونية وعن صحة عقيدتها وتمسّكها بالإيمان القويم، البطريرك الذي عرفَ أن يواكب شعبه وينقلُ اليه ما قدّمه له الله من مواهب وعطايا، وما قلّده من رسالة تحَمّلَ في سبيل أدائها أمرّ الآلام والعذابات.

أنه البطريرك العلّامة إسطفان الدويهي، بطل الفضائل المسيحية والوطنية، إبن إهدن التي اعتبرها “الفردوس الأرضي” والتي خرجَ منها عظماء البطاركة والعلماء، وسَجّل أبناؤها أكثر من انتصار على الغزاة.

 

“القديس هو مَن يحدّدُ موعد تطويبه وقداسته”، بحسب طالب دعوى إعلان قداسة البطريرك الدويهي الأب بولس القزي، الذي يعتبرُ أن هذه الدعوى هي “تاريخية” لأن كل دعوى تخطت 30 عاماً تُصَنّف تاريخية.
قصةُ قداسة البطريرك الدويهي وفعلُها الدائم في النفوس المؤمنة انطلقت من إهدن، البلدة المارونية العريقة، لتتحوّل الى تقليدٍ حي راسخ في ذاكرة أهالي زغرتا خصوصاً وذاكرة اللبنانيين عموماً، إرثٌ ينقله الكبار الى الصغار ومن جيل الى جيل بشكل حكايات تروي سيرة حياة بطريركٍ عظيم وبطولة فضائله، وقد تجسّدَ هذا الإيمان العفوي المتوارَث في تمثالٍ كبير للبطريرك الدويهي في زغرتا، وفي صوره التي تزيّن صدر البيوت الإهدنية بعد مرور أكثر من 300 سنة على وفاته في الثالث من أيار من العام 1704.

المشهدُ الأول الواعد هو إنعام الله على الشدياق مخائيل الدويهي وزوجته مريم بطفلٍ أسمياه إسطفان لأنه وُلد في عيد أول الشهداء القديس إسطفانوس في 2 آب 1630.
الطفل إسطفان تقبّل سرّ المعمودية في كنيسة مار ماما في إهدن، ومن هناك بدأ مسيرته التي أعدّها له السيد المسيح الذي قال: ” مَن لم يولد من الماء والروح، لن يدخلَ ملكوت السماوات.

في سن الثالثة، أصبحَ يتيم الأب، فترعرع تحت جناحي أمه المتعبِّدة للسيدة العذراء التي كان يبتهل اليها بالقول ” يا ست النساء”.

في عامه الخامس، وتحت سنديانة مار بطرس بدأ إسطفان يتلقّى القراءة بالسريانية كما الكتابة ومبادىء الحساب والتعليم المسيحي، وقد بدت عليه ملامح التقوى والذكاء، وسرعان ما ظهرت على التلميذ المجتهد علامات التفوق وبرعَ بين زملائه.
باكراً شعر الفتى إسطفان بدعوته الروحية، فاقتبل رتبة حلق الشعر حول قمّة الرأس، رمزاً للزهد بمباهج العالم وتكريساً لنفسه في خدمة السيد المسيح، وفي الحادية عشرة من عمره قدّمه المطران الياس الإهدني الى البطريرك جرجس عميرة، فاختاره بين المتفوّقين الذين يُرسَلون الى المدرسة المارونية في روما، ومن بلد الأرز انطلقت السفينة حاملةً مَن سيصبحُ عظيماً بين الأحبار والعلماء ليدخل الى المدرسة المارونية التي تخرّجَ منها أكثر من 300 تلميذٍ بينهم إثنا عشر بطريركاً وزهاء خمسين أسقفاً.

في روما، كادت ليالي السهر للدرس أن تُفقدَه بصره لكن العناية الإلهية لم تتخلَ عنه فواظب على واجباته بشجاعةٍ وإيمانٍ وبمساعدة رفاقه، والى جانب الدراسة واظبَ التلميذ إسطفان على الصلاة وكان يصرفُ ساعاتٍ متضرّعاً الى العذراء مريم لتشفيه من مرض العيون، فكانت الأعجوبة حين استجابت العذراء لصلواته فعادَ بصره سليماً وأكمل نهلَ العلم بحماسةٍ أكبر.
أنهى إسطفان دروسه بتفوقٍ وحازَ شهادة الملفنة في الفلسفة واللاهوت، وكانت مناقشاته تثير إعجاب أهل العلم في روما فيتناقلون أخبارها في ندواتهم، ولم يرضخ لإغراء العروض التي قُدّمت له للبقاء في روما بل قرّرَ العودة الى ما صمّم له الرب في لبنان، لكن قبل عودته، تقبّل في روما الدرجات الصغار: المرسَل والقارىء والشدياق والشماس.

 

في مكتبات روما، اهتمَّ الدويهي بالدفاع عن العقيدة المارونية لدحض وشايات إبتعادها عن الإيمان المستقيم، وفي العام 1655 وبعد أربعة عشر عاماً عاد إسطفان الى لبنان لتبدأ مسيرةٌ جديدةٌ للطالب الذي سيُكتبُ إسمه في السجّل الذهبي للموارنة، فالمتسلّحُ بالعلوم الدينية والفلسفة واللغات كان في انتظاره جيلٌ متعطّشٌ للعلم والتقوى، فباشر المعلم إسطفان الوعد والتدريس، وفي العام 1656 رقّاه البطريرك يوحنا الصفراوي الى الدرجة الكهنوتية على مذبح دير مار سركيس بإهدن في الخامس والعشرين من آذار في عيد بشارة السيدة العذراء.

واصل الخوري إسطفان رسالةَ التعليم، فأنشأ مدرسة مجانية في دير مار يعقوب الأحباش في إهدن واهتم بتعليم الصغار وعاش معهم يشاركهم المأكل ويعطف عليهم، كما بقي خادماً للرعية يزور المرضى وينثر بركته على أهله ومحيطه، فنال الى جانب مكانته العلمية احتراماً وتقديراً على روحانيته.

 

في أوائل العام 1657، أوفده البطريرك البسبعلي مرسَلاً الى حلب حيث عملَ مع رفيقه في المدرسة المارونية الأسقف اندراوس اخيجيان السرياني على “جمع شمل المسيحيين” وإعادة جموع من اليعاقبة الى حضن روما، وقد منحته عظاته في كنيسة مار الياس في حلب شهرةً واسعةً فاستطاع أن يُرسّخ الإيمان الكاثوليكي في تلك الأرجاء، وهذا النجاح لخّصه إسطفان بتقارير الى البطريرك البسبعلي والى كرادلة المجمع المقدّس في روما، فاستحق عليها براءة قبوله بين مرسَلي مجمع انتشار الإيمان في الشرق.

 

بعد اضطراب الأمن في إهدن وجوارها بسبب الصراع القيسي- اليمني، انتقل الخوري إسطفان الى جعيتا وانصرف الى التعليم بقرب مقرّ البطريرك البسبعلي الذي وجدَ في كسروان ملاذاً من ظلم العثمانيين في لبنان الشمالي، وقد عيّنه البسبعلي زائراً بطريركاً على بلاد الشوف والجنوب والبقاع.
براعته في الكرازة جعلت صديقه القديم فرنسوا بيكيت، قنصل فرنسا في حلب، يطلبه لينشىء مرسلية في الهند فاعتذر لأنه يجهل عادات تلك البلاد ولغاتها، وفي العام 1662 مضى من جديد الى حلب حيث أسّسَ مدرسةً إدراكاً منه لأهمية المؤسسات، وأينما حلَّ كانت تُنشأ المدارس وتتكرّسُ الكنائس، وكان لعظاته الأثر الكبير في الدفاع عن العقيدة الكاثوليكية.

وقبل أن تدعوه العناية الإلهية الى رسالة جديدة، قام بزيارة حجٍ الى الأراضي المقدّسة برفقة أمه مريم وأخيه موسى ونسيبه باخوس، وفي العام 1668 وجزاء تفانيه في خدمة الموارنة وبإلحاحٍ من الإهدنيين وأعيان البلاد، أقامه البطريرك البسبعلي مطراناً في دير سيدة قنوبين.

تولّى المطران الجديد أبرشية نيقوسيا في قبرص حيث طاف في المناطق المارونية يُثبّتُ العقيدة ويعملُ على جمع الوثائق والمخطوطات الروحية والتاريخية المتعلّقة بالموارنة. وفي العام 1670 توفي البطريرك البسبعلي بالطاعون، بالتزامن مع عودة الدويهي من قبرص، فكان لا بدّ من أن تكتمل القصة باستجابة المطران إسطفان لمشيئة الله وما تنتظره منه الكنيسة المارونية، فانتُخب بطريركاً على إنطاكيا في 22 أيار من العام نفسه، وبعد انتخابه بطريركاً ولشدّة تواضعه، طلبَ إعفاءه من هذا “الحمل الثقيل” كما كان يصفه فاعتزل في مكانٍ بعيدٍ من العيون، ثم عاد وقَبِل هذا المنصب نزولاً عند إلحاح المطارنة والشعب، وتفادياً لجور الحكام ولطّي الخلاف مع الشيخ أبي نوفل الخازن المعترِض على انتخابه بغيابه ومن دون مشورته، انتقل الدويهي الى دير مار شليطا في غوسطا- مقبس حيث عادت واصطلحت الأمور بين البطريرك وكبير آل الخازن.

 

حظي البطريرك الجديد باهتمام الزوار الأجانب ومنهم المركيز دو نوانتيل، سفير الملك لويس الرابع عشر، حيث اصطحبه الدويهي الى غابة أرز الرب وقدّم له خشبة لينحتَ منها تمثال الملك الفرنسي، وفي العام 1695 ألبسَ الدويهي الإسكيم الرهباني لعبدالله قرألي وجبرايل حوّا ويوسف البتن وأجاز لهم تأسيس أولى الرهبانيات اللبنانية المنظَّمة على الطريقة الغربية، وهي التي تُعرفُ اليوم بالرهبانية اللبنانية المريمية ومقرها دير سيدة اللويزة.

تسعُ مرات اضطُر البطريرك الى مغادرة مقرّه البطريركي بسبب الاضطهادات متنقّلاً بين كسروان والشوف، وكان يستغلُ دروب التشرّد ليواصل كتابة المؤلفات في العراء والمغاور، وفي إحدى المرات كاد أن يموت برداً وهو مختبىء في ظل صخرة، وفي ترحاله الى الشوف كان يستقّر في مجدل المعوش وينطلق منها متفقّداً الرعايا ومثبّتاً الوجود المسيحي في تلك المناطق، وهناك أجرى الله على يده العديد من النِعم والشفاءات لدى الموارنة والدروز.

الدويهي حافظَ على العلاقة الوثيقة بين آل الخازن والبطريركية المارونية، فوجدَ عندهم الملجأ من ظلم الولاة وكان حليفهم لدى ملوك أوروبا.

“في دولة فخر الدين المعني الكبير، ارتفع رأس النصارى”، هذه العبارة هي للدويهي وهي تلخّص علاقته مع أمراء آل معن الذين دعموا الانتشار الماروني في الشوف والجنوب، وبدورهم ساندَ الموارنة حكم المعنيين وساعدوهم في الانفتاح على الغرب.

 

تعدّدت مراسلات الدويهي مع الفاتيكان إيماناً منه بارتباط الموارنة بالكرسي الرسولي، وركّزت رسائله الى البابوات على مصاعب الموارنة وما يعانوه من اضطهادات، وتضمّنت أيضاً طلب دعم الكنائس الشرقية التي أرادت العودة الى حضن الكنيسة الجامعة، والى انفتاحه على الغرب تمسّكَ الدويهي باستقلالية الكنيسة المارونية ومشرقيتها، فتصدّى لمحاولات الفرنسيسكان نقل الموارنة الى طاعة رئيسهم اللاتيني، وبعد جهدٍ عسير ربحَ الدعوى التي رفعها الفرنسيكان الى المجمع المقدّس، وفي مقابل ذلك أسهمَ الدويهي إسهاماً فاعلاً في حماية الكنيستين السريانية والأرمنية اللتين عادتا الى حضن روما، وساعدهما في بناء أديارهما وكنائسهما في جبل لبنان وخصوصاً في كسروان.

رغم مكانته، بقي الدويهي متواضعاً في ملبسه، ومتقشفاً في مأكله، يعاملُ الفلاحين كما يعاملُ الأمراء والأعيان، وقد وصفه أحد سفراء فرنسا لدى الباب العالي بأنه على مثال أسلافه ” لا مظاهر أبّهة، فالفضيلة زينتهم وعصيهم من خشب، أما هم فأساقفة من ذهب”.

رغم تسامحه، عنّفَ الدويهي بعض الأساقفة عندما توسّطوا المشايخ ليحصلوا على بعض العشور، كذلك رفض تدخّل الأعيان في انتخاب الأساقفة، فقال في إحدى الشدائد: ” لن أحيد عن موقفي ولو ملأوا هذا الوادي ذهباً”، أما في مواجهة سياسة ” فرّق تسد” التي اتّبعها العثمانيون فسعى البطريرك الى توحيد كلمة المشايخ وجمعَهم مرةً تحت تينة في أيطو ليختاروا رئيساً، ولما فشلوا غضبَ ورماهم بالحُرم فيبست التينة.

 

ومن مِحنِ الدويهي أن حاكم الجبّة عيسى حمادة حاول سلبه مبلغاً من المال من دون وجه حق، فلما رفضَ جهّزَ الخازنيون فرقة عسكرية، فخافَ المعتدي وسارع الى قنوبين ساجداً أمام البطريرك طالباً المغفرة.

من مآثر البطريرك العلّامة أنه حقّقَ ثقافياً انفتاح الشرق على الغرب، وأسسَ في روما مطبعةً أوفدَ اليها العلّامتين إبراهيم الغزيري ومخائيل المطوشي، وعزّز اللغة السريانية وفي الوقت عينه حمى اللغة العربية من التتريك وأنشأ مدارس ومكتبات عديدة في لبنان وحلب وقبرص.

البطريرك العلّامة الذي وُصفَ بالمؤسس الثالث للمارونية بعد مار مارون ومار يوحنا مارون، تركَ عشرات المؤلفات دفاعاً عن عقيدة الموارنة وتاريخهم، ومن كتبه الشهيرة ” منارة الأقداس” و” ردّ التّهم ودفع الشُبه” و” تاريخ الأزمنة” و”تاريخ الطائفة المارونية”، وتعزيزاً لانتشار المارونية كرّسَ 27 كنيسة وأقامَ الأديار واشترى الكثير من الأملاك لوقف البطريركية، وفي سنوات حبريته رسمَ 14 أسقفاً بينهم أسقفٌ إسباني.

من عجائب الدويهي خلال حياته أن صخرةً كبيرة تدحرجت بسبب حريقٍ شبَّ في وادي قنوبين، إلا أن الدويهي رفعَ يمينه ورسمَ إشارة الصليب قائلاً: ” اتهدّي يا مباركة”، فتسمّرت في مكانها.
وفي بكفيا أخذ والد صبي ينازع الموت تراباً من تحت أقدام الدويهي ومزجه بالماء، فشرب الصبي وشفي على الفور. هذا الصبي أصبح لاحقاً المطران فيليبوس الجمّيل، وهو من روى هذه الأعجوبة.

 

بعد معاناة الاضطهادات والتشرّد، عاد الدويهي في أواخر نيسان العام 1704 الى قنوبين، وبعد توديع أهالي كسروان الذين رافقوا عودته، شعرَ بقرب النهاية فشكر القديسة مارينا التي استجابت لتضرّعه بأن يُدفن في مغارتها الى جانب أسلافه البطاركة، وفي 3 أيار وبعد 34 سنة من تولّيه بطريركية إنطاكية، أسلمَ الروح وأُدخل الكنيسة جالساً على كرسي والتاج على رأسه والعصا بيمينه، وودّعته بالصلاة حشود الموارنة الذين وفدوا من كل المناطق، وفي مغارة القديسة مارينا أُودع جثمان الدويهي فقال الموارنة:” صوتٌ سُمعَ في لبنان، الموارنة يبكون وينوحون على أبيهم ولم يريدوا أن يتعزّوا لفقده لأنه لم يكن قد يبس السوسن وذبلت الوردة وانتهت التعاليم وكمُلت القداسة”.

 

المراجع:
– كتاب ” حياة البطريرك الدويهي” للأستاذ الجامعي الدكتور أنطوان نجيم
– كتاب “البطريرك إسطفان الدويهي الإهدني” للأب يوحنا يشوع الخوري م.ل