Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر February 28, 2021
A A A
البطريرك الراعي: وقع الشعب الضحيّة جوعًا وفقرًا وبطالة وقهرًا وحرمانًا

 

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي القداس في الصرح البطريركي في بكركي، وألقى وعظة بعد تلاوة الإنجيل المقدّس تحت عنوان: “إيمانك أحياكِ … لا تخف، يكفي أن تؤمن” (لو 8: 48 و50) وجاء فيها:

1.هذه اللوحة الإنجيليّة هي مشهديّة إيمان دلّت على قدرته، عندما يسكن قلب الإنسان، ويتمّ التعبير عنه بالمسلك والموقف. فللمرأة المنزوفة التي لمست طرف رداء يسوع، إيمانًا منها أنّها تشفى من نزيف دمها المزمن، قال جهارًا أمام الجمع كلّه: “يا ابنتي، إيمانك أحياكِ، إمضي بسلام” (لو 8: 48). ولرئيس المجمع الذي بلغه خبر وفاة ابنته وهو في الطريق إلى البيت مع يسوع ليشفيها، قال يسوع: “لا تخف، آمن فقط، وابنتك تحيا” (لو 8: 50). بإيمان المرأة توقّف نزف دمها المزمن، وبإيمان يائيروس عادت الحياة إلى إبنته الصبيّة بعد موتها.

ما أقدر الإيمان وأفعله على قلب الله! إيمان صامت عند المرأة أوقف، بلمس طرف رداء يسوع، نزيف دمها الذي كانت تعاني منه منذ إثنتي عشرة سنة، وتنفق من مالها على الأطبّاء من دون جدوى. وإيمان ملتمس عند رئيس المجمع، ثمّ مصدّق لكلام الربّ، أحيا ابنته من الموت.

نصلّي في هذه الليتورجيا الإلهيّة كي يحي الله فينا هبة الإيمان المصحوبة بالرجاء والمحبّة. “فمن يؤمن يرجو، ومن يرجو يحبّ”، على ما يقول القديّس أغسطينوس.

2. إنّ المرأة المنزوفة شهدت بفعلتها لألوهيّة يسوع، ويسوع بشفائها أراد أن يشهد لإيمانها. وهكذا بشفائه إمرأة يراها الجمع، مكّنهم من رؤية لاهوته الذي لا يُرى. شهادة متبادلة، المرأة تشهد لألوهيّة يسوع، ويسوع يشهد لإيمانها. وهكذا بالنسبة إلى يائيروس، لقد آمن بألوهيّة يسوع القادر على إحياء إبنته من الموت، فكافأه يسوع بإحيائها لأنّه آمن بكلامه.

لقد تفوّق الإيمان العظيم على معالجات الطب وفنونه. وهذا تأكيد لنا ولكلّ مريض ومتألّم في جسده أو روحه أو معنويّاته أو كرامته، أنّ المسيح الربّ هو الشافي والمعزّي والمقوّي، والمتضامن معنا في آلامنا التي يعطيها قوّة خلاصيّة.

3. تبدأ هذه اللوحة الإنجيليّة بالقول أنّه “لمّا عاد يسوع إستقبله الجمع، لأنّهم جميعهم كانوا ينتظرونه” (لو 8: 40). من بين المنتظرين كان يائيروس والمرأة المنزوفة. إنتظراه بإيمان كبير بألوهيّته التي تتعدّى مظهره البشريّ. من الضروري أن نبحث نحن عنه بدورنا، فهو في حضور دائم بيننا بنتيجة قيامته من بين الأموات. يعلّم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني “أنّ يسوع حاضرٌ دائمًا في كنيسته، وبالأخصّ في الأفعال الليتورجيّة. فهو حاضرٌ في ذبيحة القدّاس سواء في شخص الكاهن خادم هذا السرّ الذي يقدّم ذبيحة الربّ المقدّمة دمويًّا مرّة واحدة على الصليب، وأسراريًّا في الخبز والخمر المحوّلين إلى جسده ودمه. وهو حاضرٌ في كلامه، بحيث أنّه هو الذي يتكلّم عندما تقرأ الكتب المقدّسة في الكنيسة. وهو حاضرٌ عندما الكنيسة تُصلّي وتُسبّح الله، بحسب قوله:” إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، أكون أنا بينهم” (متى 18: 20؛ في الليتورجيا المقدّسة، 7). كما أنّه حاضر في الجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسجين (راجع متى 25: 35-36). أجل، في هذا الحضور المتنوّع ينبغي أن نبحث عنه لنشفى من معاناتنا، ونشهد لمحبّته.

4. المسيح حاضر في وسط الجماعة وهو مصدر فرحها. هذا ما عشناه أمس السبت في الصرح البطريركيّ حيث إحتشد حمسة عشر ألف شخص، لدعم موقف البطريركيّة المطالبة المجتمع الدولي بإعلان حياد لبنان الإيجابيّ الناشط، لكي ينقيّ هويّته ممّا إنتابها من تشويهات، ويستعيد بهاءها، ولكي يتمكّن من القيام برسالته كوطنٍ لحوار الثقافات والأديان، وأرضٍ للتلاقي والعيش معًا بالمساواة والتكامل والإحترام المتبادل بين المسيحيّين والمسلمين، ودولة الصداقة والسلام المنفتحة على بلدان الشرق والغرب، ودولة الحريّات العامّة والديمقراطيّة السليمة. هذا الحياد يمكّن لبنان من تجنّب الأحلاف والنزاعات والحروب إقليميًّا ودوليًّا، ويمكّنه من أن يحصّن سيادته الداخليّة والخارجيّة بقواه العسكريّة الذاتيّة.

كما إحتشدوا لدعم المطالبة بعقد مؤتمر دوليّ خاص بلبنان برعاية الأمم المتّحدة، بسبب عجز الجماعة السياسيّة عندنا عن اللقاء والتفاهم والحوار وتشخيص المرض الذي شلّ الدولة بمؤسّساتها الدستوريّة وخزينتها واقتصادها وماليتها، فتفكّكت أوصالها، ووقع الشعب الضحيّة جوعًا وفقرًا وبطالة وقهرًا وحرمانًا. فكان لا بدّ للمجتمع اللبنانيّ الراقي والمستنير من أن يشخّص هو بنفسه أسباب هذا الإنهيار وطرق معالجته، بالإستناد إلى ثلاثة: وثيقة الوفاق الوطنيّ والدستور وميثاق العيش معًا، استعدادًا لهذا المؤتمر.

وقد شارك مئات الألوف في هذا اللقاء الداعم بواسطة محطّات التلفزيون والإذاعات والفيسبوك ووسائل الإتصال الإجتماعيّ، في لبنان والبلدان العربيّة وبلدان الإنتشار. فإنّا نحيّيهم جميعًا.

5. لقد رأينا بأمّ العين فرح المحتشدين، أثناء اللقاء وبخاصّة عند مغادرتهم، فيما قلوبهم ممتلئة رجاءً وشجاعة وأملًا، وشعلة الثورة إتّخذت وهجًا مغايرًا جديدًا.

وقرأنا على وجوههم، وقد أتوا من كلّ المناطق والطوائف والأحزاب، ارتياحهم وشعورهم بأنّ وجودهم في بكركي وجود في بيوتهم وبين أهلهم، وبأنّ الصرح البطريركيّ صرح وطنيّ لجميع اللبنانيّن. فعندما يأتون إليه، يشعرون بدفء العاطفة والطمأنينة لكونه المكان المميّز للحوار الصادق الذي تنيره الحقيقة الحرّة والمجرّدة.

6. إلى عناية الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، نكل وطننا لبنان وكلّ شعبنا، ملتمسين للوطن الخلاص من أزماته، ولشعبنا إستعادة العيش بكرامة. للثالوث المجيد الآب والإبن والروح القدس الشكر والتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.